رودولفو غراتسياني : سيرة وسلوك .. حياته ونهايته - الإيطالية نيوز

رودولفو غراتسياني : سيرة وسلوك .. حياته ونهايته


 رودولفو غراتسياني هذه الشخصية التي عُرفت بغطرستها واستعلائها واحتقارها لكل ما هو مخالف ومقاوم له, ليبياً كان أم إفريقياً أو حتى إيطالياً. ترك أثراً مازال ماثلاً للعيان في تاريخ إيطاليا الاستعمارية، وفي تاريخ ليبيا، وخاصة في منطقة برقة لما قام به من أعمال وحشية ضد الآباء والأجداد من سجن، ونفي، ومعتقلات، وقتل تعدد بالرصاص والقنابل والمشانق ورش بالغازات السامة.

أُنجز كل هذا باسم ديمقراطية إيطاليا الحضارية تارة وبإعادة أمجاد إيطاليا الرومانية تارة أخرى، فغراتسياني كان في مقدمة الزمرة التي غررت وخدعت الرأي العام، خاصة من البؤساء والمعدمين الإيطاليين حين حث هممهم قائلاً "لتسترجع لأمتنا العظيمة إيطاليا إمبراطوريتها القديمة"، وفي نفس الصدد يؤكد على أننا (الطليان) "نسالم من يسالمنا ونسحق من يعادينا"  ليتناغم مع زعيمه الدوتشي موسوليني عندما نادى بتسمية البحر الأبيض المتوسط il nostro mare - أي "بحرنا" - إحياء لما نادى به بعض الرومان في القديم الغابر من أن البحر الأبيض المتوسط هو بحرهم. 

غراتسياني النشأة والانطلاقة

ولد رودولفو غراتسياني Rodolfo Graziani في 14 أغسطس 1882م وعُمّد في قرية فيلتينوFilttino بإيطاليا. كان والده طبيباً جراحاً يدعى فليبو وأمه اديليا كليمنتي وعندما سجله والده فليبيو في سجل المواليد استخدم موظف السجل المدني الحبر الأزرق من باب المصادفة خلافاً على ما جرت عليه العادة من استخدام الحبر الأسود في سجل المواليد وهذا الأمر جعله يؤمن بأنه يتميز عن أقرانه فازداد كبرياؤه وأن خفت قتامة اللون وملأه غطرسة وغروراً وعنصرية علاوة على ذلك يذكر بيرو بيسينتي في كتابه "غراتسياني" أنه في غمرة الاحتفال بمولده - يقصد غراتسياني – انكسرت أقنية الخمر وبأعجوبة وسال منها النبيذ الأحمر مغرقا المكان ما رأى فيه الأقارب والأصدقاء بشائر خير.

التحق بالكلية العسكرية الإيطالية في بارما Parma عام 1906م للدراسات الحربية العليا وانضم إلى إحدى أصعب الدورات العلمية ومن ثم التحق بكلية مودينا Modena التي اعتبرت حينها من كليات النخب في إيطاليا التي اشتهرت بصرامة روتينها وصعوبة الدراسة فيها كان رودولفو غراتسياني ضمن 300 طالب آخر اُختيروا للدراسة لمدة سنتين وكان رقمه 13 وبالفعل استطاع أن يتفوق على أقرانه* مما زاد شخصيته قوة وعناداً.

واكبت خدماته العسكرية الأولى عنفوان حملات إيطاليا الاستعمارية التي كانت جزء من منظومة أوروبا الاستعمارية في تقاسم العالم في إطار استراتيجياتها لنهب الدول الضعيفة* وإخضاع مقدراتها لنفوذها وسيطرتها* فقد احتلت إيطاليا الصومال عام 1880م* وكذلك إريتريا التي اطلقوا عليها اسم "إريتريا" إحياء للتسمية الرومانية* وذلك بمرسوم أصدره الملك الإيطالي "أمبريتو الأول" في يناير 1890م* فبُعث غراتسياني إلى إرتريا* وبالغت المصادر الإيطالية لدرجة التضليل في عقليته وذكائه* كقولهم انه تعلم العربية* وكان يلبس لباس الإرتريين* ويندس بينهم حتى يتعرف على نقاط ضعفهم* وما إلى ذلك من أساطير الطليان حتى غادر إرتريا عام 1912م.

تزوج بـ أينس عام 1913م وكانت رتبته ملازماً* وأنجبت له بنتاً* وسرعان ما ترقى حتى أصبح عقيداً* وعمره لم يتجاوز 36 سنة* وكان حينها أصغر ضابط برتبة عقيد في الجيش الإيطالي* مما ألهب مشاعره وغطرسته الاستعلائية* هذا كله كان قبيل وصول الفاشست إلى سدة الحكم في إيطاليا.[6]

كان غراتسياني من الضباط القليلين الذين واكبوا استعمار بلدهم لبلدنا منذ البدايات حتى النهايات* وقد صنع لنفسه اسم في صحرائنا* حتى سمي بأسد الصحراء لما اعتقده في القضاء على المقاومة بقيادة الشهيد الرمز عمر المختار* وهو الذي يُعرف الآن بأسد الصحراء الحقيقي* والعجيب أن غراتسياني انتهى في ليبيا التي بنى فيها مجده الهش* فمنها خرج مهزوماً كسيراً وإن كان على أيادي بني جلدته وعقيدته من الأوربيين كما سنرى لاحقاً.

وصل غراتسياني إلى ليبيا في بدايات الاحتلال* وغادرها عام 1914م عندما كان ملازماً أول ليلتحق بالحرب العالمية الأولى*[7] وقد ساعد في العدوان على دولة الخلافة العثمانية في تركيا* مما أدى إلى تمزيقها لاحقاً* ثم طُلب منه التوجه إلى ليبيا التي كانت جيوش إيطاليا تعاني فيها من ضراوة مقاومة الأباء والأجداد* ومرارة الخسائر التي كانوا يتكبدونها بصورة دورية* وتؤكد الوثائق الإيطالية في هذا الصدد بأن المجاهدين الليبيين قاتلوا قتالاً رائعاً عند تساوي السلاح مستهدفين برصاصهم خصومهم لا سيما الضباط كما حدث لتوريللي وغيره*[8] إذن رجع غراتسياني إلى ليبيا عام 1921م ليبقى فيها حتى عام 1934م بصورة متواصلة.

بعد احتلال غراتسياني الكامل لولاية طرابلس* وصله أمر التكليف وهو في غمار معاركه لإخضاع فزان* في تلك الأثناء علم رسمياً بتعيينه نائباُ للحاكم العام في برقة يوم 11 يناير 1930م* حيث كان قد أمضى تسع سنوات من القتل والتشريد المتواصلين في طرابلس وفزان* ليرجع لطرابلس مجدداً يوم 8 مارس 1930م وليغادرها إلى روما لتسلم مهامه الجديدة في برقة التي لم تكن لهم فيها سيطرة كاملة وفعلية إلا على بعض الجيوب الساحلية* لينزل في ميناء بنغازي يوم 27 مارس 1930م* التي غادرها عام 1914م* وكان حينها ملازماً أول* قادماً من روما بعد تسلمه التعليمات العليا من موسليني* وقد كتب حينها:

"أحسست في قرارة نفسي بشعور الفراق للأراضي التي عانيت فيها الكثير من الآلام والهزيمة والانتصار .. وها أنا متجه نحو تعب جديد* ونحو كفاح مرير* واضعاً خطاي على كفة القدر هناك في برقة". 


جرائم غراتسياني في الحبشة 

ارتكب الطليان من الجرائم ما تشيب له الولدان وتتطاير منه الأبدان* ويندى له الجبين* وذلك باستخدامهم الواسع لغاز الخردل Mustard Gas في المدفعية وكذلك في مقذوفات السلاح الجوي. فقد بخوا الأحباش وبدون تفريق بمئات الأطنان من الغازات السامة* على الرغم من توقيعهم على معاهدة جنيف عام 1925م التي تحظر استخدام هكذا دمار. لقد وصل بهم الجرم لإرهاب الآمنين برش مخيمات الصليب الأحمر التي تؤوي أولئك المنكوبين* ولم تنجُ منهم حتى سيارات الإسعاف التي قصفوها بالغازات. وقد قام بهذا العمل الخسيس غراتسياني في مقدمة الجنرالات الطليان* وبرضى موسليني نفسه* وقال غراتسياني حينها هذا ultima ratio أي الحل النهائي للمقاومة

وقد لاقت هذه الأعمال البشعة استهجاناً عالمياً لاسيما من المستقلين الذين يعملون ضمن أروقة الصليب الأحمر* وكان رد إيطاليا مضحكاً عندما وصفت تلك الأحداث بأنها أخطاء على الرغم من تكرارها ما يقرب من 19 مرة* ولم تقف بشاعة غراتسياني وخلانه إلى هذا الحد بل ذهب الرجل إلى قتل كل من يقبض عليه من مقاومي الأحباش* وكل من يتعاون معهم من المدنيين* وكرر تجاربه في ليبيا على الأحباش حين أقام لهم المعتقلات في بلدهم* ونصب لهم المشانق في الأماكن العامة* ومثل بالجثث الهامدة* وكأنه أراد أن يكرر نفس السبل والأدوات التي استخدمها مع آبائنا وأجدادنا في ليبيا* بل ذهب غراتسياني إلى رمي المعتقلين الأثيوبيين من الطائرات* وهي في جوف السماء* لتتمزق أشلاء عندما ترتطم بالأرض* ولم ينهر جنوده الذين كانوا يمثلون بمن يقبض عليه من المقاومة علناً* ومن ثم يتباهون بعد قتلهم بأخذهم صوراً مع الجثث الممزقة المغدورة. 


* جرائم غراتسياني في ليبيا 

أما عن ارتكاب غراتسياني مذابح في ليبيا* فحدث ولا حرج* ما أكسبه عن جدارة لقب سفاح فزان* وبنجاح سياساته الدموية في برقة ترقى* ليتوج بلقب "سفاح ليبيا"* عكس ما تمناه من لقب أسد الصحراء* الذي حاز عليه ضحيته ورمزنا* عمر المختار* وبالتي تمكن غراتسياني من خبا نار الجهاد* مع عدم إطفائها نهائياً* ولكنها سرعان ما اضطرمت ثانية من تحت الجمر الهادئ لتأكل غراتسياني وأحلامه الذي ما فتئ يحلم بإمبراطورية عظمى تعيد لروما أمجادها في إفريقيا.

ومن أوفى ما اطلعت عليه من كتابات الطليان عن أنفسهم كتابGli Italiani in Libia "الإيطاليون في ليبيا" للباحث والمؤرخ الإيطالي انجيلو ديل بوكا Angelo del Boca* الذي أول من نوه به إلي المرحوم حسين بيّ مازق* فقد قابله ديل بوكا شخصياً عندما كان يبحث مادة الكتاب* وقرأه بالإيطالية بعدما نُشر* وأُعجب به* وبما كتب ديل بوكا عن أفعال بني جلدته بنا* فقد تحدث فيه عن فظائع الفاشست في ليبيا* لا من الوثائق الرسمية فقط* وصحافة ومذكرات ساسة وعساكر إيطاليا* بل استقى كثيراً من الروايات الشفوية من الليبيين والمستوطنين الطليان في ليبيا. 


* المؤرخ ديل بوكا يكشف الجرائم الفاشست

وهذه بعض الفقرات من ذاك الكتاب مستأنساً بعرض قام به الأستاذ تيسير بن موسى* مشكوراً مأجوراً* مع شيء من التصرف والإضافة من جانبنا:

ألف البرفسور انجلو ديل بوكا "الايطاليون في ليبيا" وترجمه للعربية الدكتور محمود علي التائب* الذي ذيله ببعض الهوامش التي لا تقل أهمية عن المتن* والذي أحييه على همته ودقته* كما أحيي البرفسور ديل بوكا الذي يعتبر من قلائل المؤرخين الشجعان المنصفين الذين ضيقت عليهم المؤسسة السياسية والصحافية في إيطاليا* وهو الذي كتب أكثر من 100 بحثاً وكتاباً في هذا الصدد* خاصة عندما كشف قليلاً من كثير الجرائم التي ارتكبها الطليان باسم إيطاليا ومجدها المزعوم في ليبيا والقرن الأفريقي* فقد هُدد الرجل بالقضاء عام 1956م* لأنه فضح إيطاليا* وأثبت أنها استخدمت الغاز الكيماوي ضد الأثيوبيين العزل* ولكن وزارة الدفاع برأت ساحته عام 1990م* وردت له اعتباره الأكاديمي باعترافها بأنها استخدمت هكذا غاز.

فانجيلو دي بوكا* هو باحث معاصر* بدأ حياته كاتباً صحفياً ثم عمل أستاذاً للتاريخ المعاصر في جامعة تورينو* كما تفرغ للتأليف* فأصدر مجموعة من الكتب بلغت أكثر من 25 كتاباً* وعدد لا يمكن حصره من الأبحاث والدراسات التي نشرت في كبريات الصحف والمجلات* كما ترجم معظم إنتاجه العلمي إلى عدة لغات منها الإنجليزية والألمانية والروسية والعربية أخرها كتاب عن المجاهد محمد بن خليفة فكيني* وقد ترأس معهد تاريخ المقاومة والعهد المعاصر بمدينة تورينو* وتتميز دراساته في تاريخ إيطاليا في العصور الحديثة برؤاها العصرية الباحثة عن الحقيقة المجردة* لذا فإن كتابه عن فترة الاستعمار الإيطالي لليبيا جاء موضوعياً ومحايداً* وإن لم يتخل في بعض المواضع عن النظرة الإيطالية للأحداث* فالمجاهدون الليبيون مثلاً يسميهم عصاة* كما يحاول أن يجد بعض الأعذار لهزائم الإيطاليين سواء أمام المجاهدين أو أمام جيوش البريطانيين وحلفائهم* ففي هذا الجانب الأخير مثلا يقول إن الجيش الإيطالي كان ينقصه السلاح والعتاد* بينما الوقائع تقول بأن هذا الجيش كان مزوداً حتى أسنانه بالسلاح* وبمئات الألوف من الجنود* وذلك لأن موسوليني وهتلر كانا يعتبران الجبهة الليبية من الجبهات الرئيسية في الحرب العالمية الثانية قبالة الإنجليز المتمركزين في مصر* وأن سقوط مصر بأيدهما واحتلال قناة السويس سيشكل ضربة قاصمة لظهر الإنجليز* ولجميع هذه الاعتبارات فلم يبخلا بالسلاح وبالرجال على هذه الجبهة* وان هزيمة الإيطاليين جاءت بسبب ضعف قيادتهم وعلى الأخص غراتسياني الذي كان قائداً عاماً للجبهة الليبية المصرية* ومع ذلك فإن هذه المواقف التعاطفية لم تلغ بأي شكل القيمة العلمية للكتاب* أو تمس موضوعيته* وأهمية المعلومات والتحليلات الناضجة التي تضمنها.

اعتمد المؤلف في تأليف كتابه على مجموعة مهمة من الوثائق* خاصة وثائق وزارة الخارجية والدفاع الإيطالية* وكذلك الألمانية والإنجليزية* مع مذكرات عدد من القادة الطليان الذين عملوا في ليبيا* وأيضاً شهادات بعض من شاركوا في المعارك* أو الذين عاشوا الأحداث* من بينهم عدد من الليبيين* كما استنار بآراء بعض الباحثين منهم على سبيل المثال الأستاذ فؤاد الكعبازي* والدكتور صلاح الدين السوري.

يتناول هذا الكتاب "الإيطاليون في ليبيا" والذي يعتبر الجزء الثاني من دراسة مطولة للمؤلف حول الاستعمار الإيطالي لليبيا الأحداث التي جرت على الأرض الليبية منذ وصول الحزب الفاشستي بزعامة موسليني إلى السلطة في إيطاليا عام 1922م وحتى انهيار إيطاليا وخروجها من ليبيا في الحرب العالمية الثانية أي حتى عام 1943م* ويمتاز هذا الكتاب بذلك العرض الموثق لفظائع الفاشست وقادتهم العسكريين التي ارتكبوها بحق الشعب الليبي* خصوصاً أن من يعرضها باحث إيطالي* ومن بلاد أولئك السفاحين* فلا عجب لان ذلك ما ذكره غراتسياني دون استحياء من شنائع حين ذكر أن رجاله ذبحوا أكثر من 200 من النساء والشيوخ والأطفال العزل في الكفرة* وقاموا بملاحقتهم للمنسحبين من الكفرة* وإفنائهم في الصحراء بكل ما أوتوا من جبروت* بإفراغ قوتهم المدمرة من طيرانهم* وكذلك نقله أكثر من 80 ألف من قبائل برقة* ووضعهم في معتقلات الدمار والموت.

لكن الذي يستوقف القارئ عند قراءته لهذا الكتاب هو تلك العدالة الربانية التي مكنت الليبيين* كما يعرض المؤلف* من أن يروا بأم أعينهم كيف تجرع الإيطاليون الفاشست كأس العذاب والقتل والتشريد والمهانة* التي سبق وجرعوها للشعب الليبي المسالم* فقد كان انتقاماً من الله عز وجل* وإن هذا الانتقام لم يتم على أيدي الليبيين* إنما على أيدي أناس من ملتهم ودينهم* وهم جنود الإنجليز وحلفائهم من أستراليين ونيوزيلنديين وغيرهم* بل إن الليبيين كما يذكر المؤلف* كانوا بأخلاقهم العربية والإسلامية رحماء بأولئك الفاشست الغزاة رغم كل ما فعلوه بهم من فظائع* ويذكر المؤلف بهذا الخصوص* كيف استضاف الليبيون في دورهم ونجوعهم مئات من نساء وأطفال الطليان الفارين المذعورين* وحموهم من القتل والاغتصاب من قبل جنود الإنجليز وحلفائهم المنتصرين في الحرب خاصة في ولاية طرابلس

فقد عرض هذا الباحث الإيطالي بمنهجية علمية جانبين* أولها الأعمال والممارسات الوحشية التي مارسها الغزاة الفاشست على الشعب الليبي* حين شنقوا رجاله* ونكلوا بنسائه* وأطفاله وشيوخه* كما نهبوا ممتلكات هذا الشعب* وصادروا أراضيه* ودفعوا من سلم من قتلهم وبطشهم إلى الهيام في الصحارى القاحلة* ليدفنوا بين رمالها أو يلجأوا إلى البلدان المجاورة سيراً على الأقدام جياعاً حفاة ممزقي الثياب* ويستبدل مكانهم مزارعو منطقة فينيتو Veneto* وفقراء جزيرتي صقلية وسردينية* والجنوب الإيطالي* الذين عانوا من عنصرية الشمال واستعلائه وتهميشه لهم* فيُعطى لهم ما ليس ملكهم* بحجة التعمير* وأن ال****ين الإيطاليين هم أحق من أي أحد أخر* لأنهم يتقنون هذا العمل أكثر وأحسن من العرب على حسب تعبير غراتسياني.

أما الجانب الثاني فهو المصير المؤلم الذي حل بالإيطاليين بعد انهزام جيوشهم في الحرب العالمية الثانية داخل الأرض الليبية* والذي يشابه بشكل مذهل* كما سوف نرى* ما صنعه غراتسياني وأمثاله بالشعب الليبي. 

الجزء الرايع :-

وحشية غراتسياني وجرائمه

أثبت غراتسياني أنه أكثر جنرالات الجيش وحشية ودموية* ولهذا تم تعيينه ليقوم بتنفيذ خطة إفناء* خاصة في برقة* فيما يذكر ديل بوكا* ولأن قبائلها التي بقيت معادية لهم* وحاملة السلاح ضدهم* حيث يذكر غراتسياني في كتابه "برقة المهدأة" بالتحديد قبائل المغاربة والعبيد والعواقير* ومن ثم يشرع في إبادة لم يسبق لها مثيل في التاريخ في وحشيتها وفظاعتها وعنفها تمثلت في عدة إجراءات ذكرها غراتسياني في كتابه "برقة المهدأة" يمكن تلخيص تلك الشنائع والأفاعيل البشعة في الأتي:

1. قفل الحدود الليبية المصرية بالأسلاك الشائكة لمنع وصول المؤن والذخائر*

2. إنشاء المحكمة الطارئة في أبريل 1930م*

3. فتح أبواب السجون في كل مدينة وقرية ونصب المشانق في كل جهة*

4. تخصيص مواقع العقيلة والبريقة من صحراء غرب برقة البيضاء والمقرون وسلوق من أواسط برقة الحمراء لتكون مواقع الاعتقال والنفي والتعذيب* فيما عرف عند البادية بـ "ضمة النواجع"*

5. العمل على حصار المجاهدين في الجبل الأخضر واحتلال الكفرة*

6. ومن ثم محاكمته الصورية للشيخ عمر المختار* وإعدام رمز لليبيين ومظلوميتهم.

لقد كانت السلطات بأوامر من غراتسياني في عهده تعاقب الليبيين المدنيين الذين يقصرون حتى في تحية ذوي الرتب والمكانة في الإدارة بالجلد* وكذلك يجلد من لا يقف منتصباً جامداً عند نفخ البوق تحية لعلم إيطاليا عند رفعه وإنزاله* وفي لقاء لي مع المرحوم محمد عثمان الصيد* رئيس وزراء ليبيا الأسبق* أخبرني بأن الوسيلة الوحيدة التي عمل بها عرب فزان للتحايل على هكذا تحية كنا نرفع اليد كما يفعل الفاشستيون والنازيون* ولكننا نخالفهم بإصرارنا على هويتنا الإسلامية ونقول في صوت خافت: يا رسول الله. 
تحدث ديل بوكا عن العمليات الحربية التي تمت في عهد الحكم الفاشستي بزعامة موسوليني* ويذكر أسماء مجموعة من القادة الطليان اتسمت أعمالهم بالوحشية المطلقة* يقف على رأس هرمهم الجنرال رودولفو غراتسياني* الذي استطاع هذا الدموي الرهيب أن يبني شهرته على أجساد وجماجم الليبيين* وكان إثر كل مجزرة ينفذها برجال ونساء ليبيا* تزداد شهرته بين ***** شعبه* وتترقى رتبه العسكرية* فغدا - كما يقول المؤلف - نجماً ساطعاً في سماء إيطاليا* والبطل الذي لا يعرف الهزيمة* وقد خصه شعراء بلاده بقصائد المديح والتقريظ* ما زاده زهواً وغروراً* وكان غراتسياني يفتخر ويتباهى بأعماله الوحشية* مؤكداً بأن أستاذه ومثله الأعلى كان السياسي الإيطالي المراوغ ميكافيلليMichavelli * صاحب الكتاب الشهير "الأمير" Principe* حيث يقول عنه بالخصوص: كلما نسبت أعمالي للوحشية فإني أردد ما جاهر به ميكافيللي العظيم قائلاً: "كي يحتفظ الأمير بهيبته عليه ألا يعبأ بعار القسوة"* ويعترف أيضاً بأن ضميره لم يؤنبه للحظة واحدة عن أعماله الدموية بأفراد الشعب الليبي فيقول: "لم يحدث أن نمت لليلة هانئة* مثل الليلة التي أكون قد راجعت فيها ضميري* فيما يقولونه عن قسوتي ووحشيتي".

وبهذا الميكافيللية* التي مبدئها وأساسها "الغاية تبرر الوسيلة"* أصطنع غراتسياني لنفسه ناموساً* روحه سياسة المراوغة والخداع* ولا اعتبار لنداء الضمير أو الإنسانية* ماضياً في طوباويته* غارقاً في عالم الأحلام والأوهام ومثله العليا* وتحقيق كل ما يراه مباحاً بغية الانتصار* وما تشتهيه نفسه الجامحة من نجاحات في الحياة .. فقد كان ينتقض الواقع بعيشه في عالم الفنتازيا.

ويؤكد ديل بوكا على جرائم الفاشست ويذكر إن شريك غراتسياني في جرائمه ضد الشعب الليبي دعي آخر هو بادوليو الذي كان حاكم ليبيا العام* ورئيس غراتسياني المباشر* وقد خطط الاثنان بدعم من موسوليني لإبادة الشعب الليبي قتلاً وتهجيراً* وقد تفنن هذان المجرمان في ابتكار الوسائل لتحقيق ذلك المخطط الرهيب* فأقاما المحكمة الطائرة عام 1930م التي كانت هيئتها تنتقل من مكان إلى آخر بطائرة خاصة لتحكم بشنق الليبيين على الفور* رجالاً ونساءً في محاكمات صورية مضحكة* كما انهما وراء إقامة المعتقلات الجماعية الرهيبة للآلاف من الليبيين* بخاصة سكان برقة وهون* وقد حشروا فيها أكثر من مائة ألف مواطن جلهم من النساء والشيوخ والأطفال.

 
* غراتسياني وسياسة حز الرؤوس عن الأجساد

حرصت إيطاليا الفاشية على تصفية كل من يعاديها معنوياً وجسدياً كما ما هو معروف* واستخدمت شتى السبل* فقد وصل بها العنت لرصد ما يقرب من ربع مليون فرنك إيطالي لمن يقدم معلومات أو يأتي برأس عمر المختار حياً أو ميتاً* حتى أن غراتسياني قال لو أخلص لنا أقل من ربع المجندين (المطلينين) الليبيين فقط لقضينا على عمر المختار وزمرته المتمردة. 

الحديث عن طلب غراتسياني لراس عمر المختار حياً أو ميتاً* يجرنا إلى سياسة حز الرؤوس عن أجسادها* الأخلاقيات التي اعتمدتها إيطاليا ضد عدد من المجاهدين. واللافت أن أغلب هذه الجرائم النكرة تمت بإيعاز واستحسان غراتسياني* لتكررها في عهده* وهذه الرؤوس التي حُزت في ولاية غراتسياني هي مقربة جداً من عمر المختار.


* رأي غراتسياني في بعض مجاهدي ليبيا

هذه بعض القطوف سطرها غراتسياني بقلمه* وعبر بها عن رأيه في تلك القيادات* فهو في الغالب لم يخف ازدرائه* ولم يوفر أقذع النعوت* وأبذئها في وصف رجالات ليبيا تعبيراً عن حنق ومرارة ألقمها أولئك الرجال له* ولآلته العسكرية الوحشية* فكتب عن:

* عمر المختار

.. فليس بالرجل الذكي الخارق للعادة* كما يقال عنه* ولكن بجرأته استطاع دائماً أن يفلت من الحصار ... وعمر المختار رجل بدوي مثل الآخرين ليس مثقفاً* وليس له أي فكرة في أن يتطور .. بل متزمت فوق اللزوم* ثم يعود وينكث ما كتبه بأن (عمر المختار) ليس بالرجل الغبي أو الجاهل كما قال عنه العقيد نانسي* فبفكره الثاقب وعقله الراجح رأى أن استمرار التعاون مع الليبيين يعرضهم إلى الأخطار.

* غراتسياني ومشاكله مع الطليان 

كان حال غراتسياني في قومه بين مادح وقادح* فكان شديد الكرم مع مادحيه* الذين وصفوه في حربه لليبيين بالرجل القوي والعادل* ويحقد على كل من يعارضه* وبالتالي صنع لنفسه كثيراً من الحساسيات بينه وبين أقرانه من جنرالات إيطاليا* حتى أن بعض الطليان تجاوز المعقول للتشكيك في شرفه وعرضه* فاضطر غراتسياني ذات مرة أن ينفي الرذيلة عن نفسه* مفادها أنه قد أُخصي من قبل العرب الليبيين* كما ورد في كتاب بيرو بيسينتي Piero Pisenti)

ومن الضباط الكبار الذين كرهوا غراتسياني كان جوزيبي دايوديتشي Giuseppe Daodiace الذي كان متصرفاً لمنطقة الجبل (درنة وشحات والمرج)* وكان الإيطالي الوحيد في ليبيا الذي أثنى عليه الشهيد الرحالة الدنمركي المسلم اكنود هولمب* وقد عُرف عن دايوديتشي تعاطفه مع أهلنا ولم ينسوا له ذلك* ما استمطر عليه حنق وكره غراتسياني* فطلب غراتسياني إبعاد دايوديتشي الذي احتج على توحش غراتسياني وولوغه في الدم* واستنكار كثير من سلوكياته التي لا تمت لشرف العسكرية كإعدام النساء*فنجح غراتسياني في طرد دايوديتشي من ليبيا عام 1932م. 

وقد عاينت بعضاً من تركة دايوديتشي من وثائق وصور* وأوصلت أهمية ذلك لإدارة مركز الجهاد بطرابلس* ورأيت بعيني تعليقه على كتاب غراتسياني مستهجناً* فقد كتب على صدر الكتاب بخط قلمه تحت اسم غراتسياني "السارق القاتل"* وعند مقابلتي لابنة دايوديتشي* فيكتوريا* في لندن التي أطلعتني على وثائق ورسائل والدها قالت لي: كان والدي يكره غراتسياني لأنه قاتل وسارق مجوهرات آل كعبار* بعدما اعدم الهادي كعبار* وأكد ديل بوكا كما نقل في كتابه "الإيطاليون في ليبيا"* بأن غراتسياني يكره دايوديتشي لأنه يعتبره شديد اللين مع الليبيين.
أما ضحية غراتسياني - الهادي كعبار - فقد عُرف عنه منذ الحكم العثماني بزعامته وثقافته وتعليمه* حيث درس في المدارس التركية* وكان يجيد اللغة التركية كالعربية* وتقلد عدة وظائف حكومية في العهد العثماني هو وآباؤه* وكان من أعيان غريان وسادتها* وفي مقدمة النابهين والمثقفين فيها* على حد وصف الشيخ المؤرخ الطاهر الزاوي. ولكن غراتسياني لم ينس للهادي مواقفه الوطنية* فلم يلبث أن قبض عليه في غريان* وتحفظه عليه برهة من الزمن* ومن ثم نقله إلى الخمس* ثم إلى مصراتة التي حُوكم فيها سنة 1923م* وحكم عليه بالإعدام* وقتل شنقاً* وعلق غراتسياني قائلاً: ".. واجه المشنقة بشجاعة .."* وبعد ذلك بساعات شنق ابنه* محمد* في نفس المكان* وبعدها بأيام شنق خال الهادي كعبار* عبد الله بلخير* في ميدان المتصرفية في تغسات بغريان* ولم يكتف بذلك بل اعتقل قُصر آل كعبار من نساء وأطفال* ونقلوهم إلى طرابلس.

وقد تمادى غراتسياني في غيه فأمر بهدم بيت آل كعبار في تغرنة* الذي كان يتردد عليه زعماء المنطقة* ولما كان يمثله من مضافة للمجاهدين* ومخزناً للمؤن والأسلحة* وقد سبق وأن اعتقل فيه المجاهدون بقيادة الهادي كعبار أسرى الطليان السبعين الذين قبض عليهم في حامية القواسم* ولم يكتف غراتسياني بذلك بل طارد أخوي الشهيد كعبار* مختار وأحمد راسم* في مجاهل فزان. وكتبت صحيفة كورييرى دى تريبولى: "إن شخصية الهادي كعـبار كانت دائماً في الصف بين أولئك الذين عمدوا في جميع الحالات وفى كل الظروف إلى إهانة إيطاليا والغدر بها"*ولعل أبلغ وصف ابرز معالم شخصية الشهيد الهادي بك كان لغراتسياني نفسه الذي قال عنه: لا ينقصه الذكاء والكفاية* وكان يعمل دائماً ٌلإلحاق الضرر بنا وضد مصالحنا" ... "ولذلك كان شنقه حجر زاوية في طريق إعادة الاستيلاء على البلاد بنظرات واضحة* وحساب دقيق للعواقب".

أما تنافس ايتالو بالبو – محبوب الشعب الإيطالي – وغراتسياني – عدو الشعب الليبي – فكان ماثلاً للعيان* حيث اشترك الرجلان في حلم تأسيس إمبراطورية لأحدهما في غياب الآخر داخل إمبراطورية الدوتشي (موسوليني) الكبرى* ولكن حسابات الدوتشي كانت فوقهما* فأراد موسوليني أن يتخلص من بالبو بإبعاده إلى ليبيا* والتقليل من الأثر الوحشي الذي تركه غراتسياني* بعد "التهدئة" بالنار والحديد* بإخراجه من ليبيا. 

فمجرد ما استلم بالبو وظيفة الحاكم العام لليبيا* الوظيفة التي طالما حلم بها غراتسياني ورجاها "جزاءً وفاقاً" لما قام به من تهدئة لليبيا* أعلن بالبو من البدايات كرهه لغراتسياني وامتعاضه من سوء عمله في ليبيا عموماً* وبرقة خصوصاً* فعمد إلى جمع الوثائق والمستمسكات التي تدل على بشاعة أفاعيل غراتسياني* الذي كان غير مرغوب فيه من الليبيين ورأى في وجوده تذكيراً لليبيين بالمجازر التي ارتكبت والتي أراد أن ينسوها* وأن يفتح صفحة جديدة معهم بدونه.

شرع بالبو في حملة تشهير وتشويه* ومحو كل إنجازات غراتسياني* كإزالة اللوحات الرخامية التي تمجد "بطولات" غراتسياني في التصدي للمقاومين والتنكيل بالعزل* وأمعن بالبو في تهميشه ما سهل مغادرة غراتسياني ليبيا ذليلاً بعدما أراد الذل لأهلها* فلملم غراتسياني جراحه ومشاعره المهانة* ونقل شعراً نسبه فيما يبدو زوراً لبدوي يثني عليه* لعله من باب سلوان النفس ومواساتها* وغادر ليبيا ليكون على موعد بصفعة أخرى ولكنها ستكون قاصمة في الحرب العالمية الثانية من برقة التي أراد لها التهدئة.


* الكذب والافتراء 

تاريخ الإيطاليين في ليبيا به قدر كبير من الأكاذيب والافتراءات على الأجداد* وفي تصانيفهم للتاريخ آنذاك* فزعم بعضهم بأن عثمان العنيزي كانت له باندة أسموها بباندة العواقير* وهذا لم نسمع أحد قد ردده في برقة* حتى الباندات التي مرت ببلاد كانت تعرف بزعمائها وليست بقبائلها* وهذه دلالة على أنها حالات فردية كباندة عاكف والقريتلي والكردي والزاوي وغيرها لأنها خليط* ولكن أسوأ من ذلك كذبهم على الشيخ عمر المختار نفسه* فلقد كتب غراتسياني نفسه ينسب الاستسلام للشيخ عمر المختار لإيطاليا وسلطانها استسلاماً تاماً على حسب ما ذكره في إعلان مزعوم للشيخ الشهيد في قوله لهم: لا تنادوني بالعاصي (ويقصد عمر المختار)* فإنه لم يسبق لي قط قبل اليوم أن استسلمت للحكومة* بل إنني قاتلتها دائماً لأن ديني يأمرني بذلك* واليوم أستسلم مع كل من معي* ومنذ اليوم يجب أن يرين على برقة السلام المطلق الكامل* وعلى جميعهم أن يطيعوا حكومة إيطاليا الشرعية* تجولوا كما شئتم وحلوا الدوريات وألغوا الحصون لأنها أشياء لم تعد إليها حاجة في برقة* إذ لم تعد هناك في برقة حرب* كما نسب إلى الشيخ عمر المختار.

بداية النهاية لغراتسياني 

جاءت نهاية غراتسياني ذليلة حقيرة* والسخرية الأكثر لذعاً وربما إذلالاً من سخرية الزمن هي سخرية عمر المختار* التي أوردها غراتسياني في مذكراته عندما كتب هو نفسه نقلاً عن عمر المختار: إذا سمعتم زئير أسد (غراتسياني) من بنغازي إلى قلب الجبل الأخضر لا تخافوا* سوف تحقق لكم الأيام مرة أخرى أنه تحت جلد الأسد حمار.

كتب الأستاذ خليفة التليسي في كتابه "بعد القرضابية" أن غراتسياني قد حصد أعمال غيره* أي أنه وصل ليبيا بعد حوالي اثنتي عشرة سنة من قتال المجاهدين الليبيين الذين ضعفت مقاومتهم بسبب كثرة ما قتل منهم في معارك الجهاد الأولى* وكذلك لنقص السلاح والمؤن لديهم* فلو أن غراتسياني حضر معارك الجهاد الأولى* لكان مصيره كمصير القادة الطليان المهزومين المدحورين أمثال الجنرال مياني الذي هُزم شر هزيمة في القرضابية* وغيره.

ولكن هاهو غراتسياني الذي حارب الليبيين بشراسة في ساحل طرابلس والجبل الغربي ومناطق القبلة وفزان وبرقة* التي قضت مضاجعه برجال كعمر المختار* يجعل في النهاية الليبيين جزء من قواته الضاربة في عملية إعادة احتلال الحبشة* غراتسياني القائل بأنه وحده من يستطيع أن يقود هؤلاء المقاتلين الأشداء والعنيدين* ويجعلهم يتبعون أوامره* ولكن كشفت الحرب العالمية الثانية ما لم يكن في حساباته العسكرية* وتناسى أن لليبيا وأهلها إلهاً عادلاً يحميهم* وشعباً تربى على المقاومة* بعدما علق الشيخ الرمز عالياً شهيداً شامخاً فوق الرؤوس* وظن بفعلته هذه أنه قد أخمد جهاد الليبيين ضد حكمهم الجائر. 

* حرب غراتسياني ضد الإنجليز في مصر 

لقد صدق حدس الشيخ عمر المختار* و كشفت الحرب العالمية الثانية أنه تحت جلد الأسد حمار "وحشي" في هيئة ماريشال* حيث تجلت "عباطة" غراتسياني وجبنه* وعدم أهليته القتالية* حين تسبب في إلحاق هزيمة مذلة بإيطاليا في معركة سيدي براني مع الإنجليز (البريطانيون وحلفائهم) على الحدود الليبية المصرية.

فكان إعلان الحرب على بريطانيا وفرنسا في 10 يونيو 1940م قراراً موسولينياً بامتياز فاشي* ولم يشاركه فيه غراتسياني بل أبدى الأخير توجساً وخوفاً من العواقب الوخيمة* كما صدق حدسه فيما بعد. وللعلم الفاشية وصلت إلى حكم إيطاليا عام 1922م* أي بعد أكثر من عشر سنوات من احتلال ليبيا* وللعلم أيضاً عندما احتلت إيطاليا ليبيا كان من بين المعارضين للاحتلال شاباً راديكالياً يسارياً اسمه بنيتو موسوليني* والذي حكم عليه خمس سنوات* فكان أول سجين يعارض الاحتلال* وقد قضي منها ستة اشهر بالحبس* هذا وقد نُفي الكثير من اليسار الإيطالي من الذين عارضوا الاحتلال إلى الجزر النائية الإيطالية كما فُعل بأهلنا في ليبيا.

كان مقتل بالبو في حادث الطائرة الشهير قرب طبرق في 28 يونيو سنة 1940م بنيران إيطالية* مدعاة تكهنات* واتهامات بأنها كانت مؤامرة* ولكنها كانت بكل تأكيد تحقيقاً لحلم غراتسياني* فأصبح حاكماً عاماً لليبيا* وقائداً عاماً للقوات الإيطالية في ليبيا* فزحف غراتسياني كقائد للقوات غازياً مصر* وكانت أحدى مكونات الجيش من المجندين الليبيين* بلغت في إحدى التقديرات إلى 40 ألف ليبي* وبلغ تعداد القوات مجتمعة أكثر من مائتي ألف جندي* وسرعان ما احتل سيدي براني في 13 سبتمبر 1940م* التي تبعد 100كم داخل الحدود المصرية* بعدما تراجعت القوات البريطانية حتى سيدي برانى* وكان مع غراتسياني خلق كثير في جيشه من بينهم كتائب من طرابلس وبرقة* التي أشاد بروحها القتالية حين أكد أنه بدون الليبيين ما كان أول نصر في سيدي براني ليتحقق* فالليبيون أنقذوا الموقف* "وأحرزوا النصر بفضل الاستخدام الواعي الواثق الذي أستطيع وحدي القيام به" .. كما روى غراتسياني. 

وفي الآن نفسه كانت تساور غراتسياني الشكوك في ولاء الليبيين المنخرطين في سلك الجندية الإيطالية حتى أنه كتب ".. إن قلوب رؤساء هؤلاء الجنود وصدورهم المليئة بالأوسمة والنياشين وآثار الجروح والعاهات التي بقيت على أجسادهم* تجعلنا نعطف عليهم من صميم قلوبنا* ولكنهم برهنوا عكس ذلك* الأمر الذي جعلنا نجزم بأنهم يلعبون على حبلين: معنا وضدنا .."* ولذلك سعى غراتسياني وخطط إلى تخفيض المجندين الليبيين لأنهم يسربون المعلومات الاستخبارية والمؤن والسلاح والأموال إلى أعدائه من المجاهدين وغيرهم كما ثبت مع الإنجليز. 


في بداية فبراير من عام 1941م هجم الإنجليز على الطليان بقيادة الجنرال أوكيناور O’Connor* فمزقوا الأسلاك الشائكة (الشبردق) التي أقامها غراتسياني* في ما عُرف فيما بعد بمعركة مارماريكا* وتم القضاء على ربع القوة الإيطالية الموجودة في ليبيا* ووصلت القوات البريطانية إلى بنغازي للمرة الأولى* فأصبح غراتسياني مهزوماً* وأصيب بانهيار عصبي* وانتهى كقائد عسكري *وسرعان ما انهار الرجل وجيشه العاشر* وسقطت برقة في ذهول وحيرة كاملتين ليغنم الإنجليز 130 ألف أسير و400 دبابة و120 مدفع* في حين أن غراتسياني كان مئات الكيلومترات بعيداً عن مسرح المعارك* فكان يختبئ بكهف في منطقة شحات في الجبل الأخضر* ويقود العمليات من هناك* ما وبخه عليه موسوليني وطلب منه استقالته.

والجدير بالذكر أن أول راية (علم) إيطالية حريرية يغنمها الجنود الليبيون كانت من نصيب المجاهد التواتي عبد الجليل العرابي المنفي* من ***** عمومة عمر المختار* وحرسه الخاص* ومن الرجال القلائل الذين كانوا حوله يوم أُسر* ولكنه نجا بأعجوبة* فقد غنموها من الطليان الفارين الذين تركوا شرف إيطاليا خلفهم أمام حفنة من البدو مسلحين بأسلحة خفيفة* وعندما سُئل المجاهد التواتي عبد الجليل قال: قضيتنا عادلة ونؤمن بها وندافع عنها* ونستعد للموت في سبيلها* كل لحظة دون الحرص على الحياة.

* غراتسياني يتنحى 

يذكر ديل بوكا أن غراتسياني طلب في 8 فبراير 1941م من موسوليني إعفائه من مهامه كلها بعد مسلسل الإهانات قائلاً: " أيها الزعيم أن الأحداث الأخيرة قد ضغطت على أعصابي بعنف* وعلى قواي البدنية إلى الحد الذي لم يعد يسمح لي بالاحتفاظ بالقيادة في كمال من قدرتي". كما يذكر أن أخر أمر أصدره غراتسياني في ليبيا قبل أن يرجع طائراً إلى إيطاليا يوم 11 فبراير 1941م كان وجهه إلى العقيد كاستانيا الذي لا يزال يدافع عن الجغبوب. 
كان الإنجليز قد اتفقوا مع المهاجرين الليبيين بقيادة الأمير إدريس السنوسي على تشكيل جيشاً من الليبيين ينضم إلى الجيش الثامن البريطاني في أغسطس 1940م* وقد لعبوا دوراً محورياً في هزيمة الطليان ومن ثم بعدهم الألمان* حيث سلم كثير من هؤلاء البواسل - عندما كانوا في صفوف الطليان - الذي افتخر بهم غراتسياني وبشدتهم وعنادهم إلى الإنجليز بعدما اتصل بهم رجال الجيش السنوسي وحثوهم على خذلان الطليان* كما حدثني المرحوم نوري الصديق بن إسماعيل* ومن ثم يلتحق من وقع في الأسر من الليبيين* وخاصة البرقاويين* إلى الجيش السنوسي الذي تغير اسمه إلى Libyan Arab Force القوة العربية الليبية. 

كتب الشيخ الطاهر أحمد الزاوي مفتخراً بأهل برقة وجهادهم خاصة في حملة الجيش الثامن البريطاني إبان حرب التحرير ضد قوات المحور (إيطاليا وألمانيا)* ويستشهد الشيخ الزاوي بفلادمير بينكوف أحد ضباط القوات الخاصة البريطانية حينما قال: "إني لا أعدو الحقيقة حين أقول إن عرب برقة كانوا معبر النصر للحلفاء في هذه الحرب وإن جميع أفراد الجيش البريطاني الثامن مدينون بحياتهم لعرب برقة" .. ويؤكد الشيخ المفتي بأنهم قدموا "المساعدات ما كان له فضل مذكور في انهزام جيوش رومل".
وشكلت بعد هزيمة سيدي براني الشنيعة محكمة عسكرية "فاشية" للتحقيق مع غراتسياني* ولكن موسوليني قرر أن لا يفعل بغراتسياني شيئاً* في تلك الأثناء حاول وزير أفريقيا الإيطالية* اتيليو تيروتسي* أن يشرح تمرد الليبيين وخذلانهم للجيش الإيطالي في مصر ضد الإنجليز* وكذلك تمرد أهل برقة على الجالية الإيطالية إبان الحرب العالمية الثانية بسبب حكم غراتسياني المستبد في مذكرة إلى موسوليني معللاً فيها:"بسبب تلك السياسات الحازمة .. ونظام قمع وفتك جماعي وإفناء وترحيل لجماهير بكاملها أدى إلى توهج نار العصيان".


نهاية الدوتشي موسوليني 

أحياناً تصاب أمم بجنون جماعي تلهث فيه وراء بعض القادة الهلاميين غير العقلانيين* كما فعل الألمان مع هتلر* والطليان وراء موسوليني* واليهود وراء قادة الحركة الصهيونية وهكذا .. فقد توالت هزائم غراتسياني حتى بعدما أعيد بعد تنحيته* وأن بقي موالياً لموسوليني وفاشياً صادقاُ* ولكنه ألحق بسمعة إيطاليا العار* فالمرة الأخيرة التي قابل فيها هتلر كان في معية موسوليني عام 1944م.

قبلها قرر الطليان بقيادة الملك تنحية موسوليني وزمرته* وبالفعل قبضت الشرطة العسكرية على موسوليني ونقلته إلى مكان مجهول* وظل سجيناً حتى خطفه مظليو هتلر وأسسوا له جمهورية في شمال إيطاليا باسم Repubblica sociale italiana * أما الماريشال دي بونو فكان حظه سيء* فأُدين وأُعدم في عام 1943م* (1) وكان غراتسياني ممن أخلص لموسوليني حتى النهاية* وبادله موسوليني التحية فعينه وزيراً لدفاع جمهورية إيطاليا الشمالية التي أعلنها الألمان لدعم موسوليني بعد هزيمته وزحزحته عن أكثر وسط وجنوب إيطاليا* وقاد غراتسياني فرقة مختلطة من الإيطاليين والألمان عُرفت بـ Armee Ligurien.

ولكن انتهت المغامرات الهتروموسولينية البائسة بالقبض على موسوليني وهو يرتدي معطفاً ألمانياً في داخل سيارة جنود ألمانية في منطقة كومو في محاولة لتهريبه خارج إيطاليا* فكان كثيراً من الطليان قد أيقن - بالطبع بعد خراب مالطا كما تقول أمهاتنا - بأن موسليني قد ألقى بهم إلى الهاوية* فأصبح المصاب جللاً* فلم يجد الطليان إشكالاً ولا ضيراً في محاسبة موسليني* ومن ثم إعطائه العقاب الذي يستحق. 

أُعدم موسوليني رمياً بالرصاص ثم عُلق مع أعوانه السبعة عشر في ميدان "دونجو" بميلانو على يد الشعب الايطالي عام 1945م* وقد حكى لي الدكتور وهبي البوري كيف رأى موسوليني وهو مشنوقاً من رجليه مع عشيقته كلارا بيتاكي* بعدما مثّل بالإثنين*  وقد فُعل بجسد كلارا وهي جثة مشوهة ما يستحي المرء من استعراضه أو ذكره لكم بالتفاصيل.

ولكن بعد غياب موسوليني وانهيار الحكم الفاشي* وخاصة بعدما كان غراتسياني آمراً للقوات الإيطالية في صقلية لصد الحلفاء* كان لغراتسياني موعداً جديداً مع الإهانة والفشل* فكانت صقلية أولى المداخل التي دخلت منها قوات الحلفاء بقيادة أمريكا لتحرير إيطاليا من حكمهم الفاشي* فـفر هو وجيشه أمامهم* وسرعان ما استلمه الأمريكان* ومن ثم أرجعوه للطليان الذين حاكموه* وأذلوه* ووضعوا الحديد في يديه* كما فعل مع عمر المختار. 
ماذا حل بطليان ليبيا

بعد تحرير ليبيا من الطليان ودخول قوات الحلفاء طرابلس وإعلان سيطرتهم النهائية على ليبيا في فبراير 1943م* كانت هناك بعض ردود الفعل من المواطنين وخاصة في برقة ضد من أساء إليهم* بالقتل والتشريد* وسلب منهم الأرض* فقد طُرد المستوطنون الطليان كلياً* حتى أن ديل بوكا ذكر أنه في عام 1948م تبقّى هناك 55 من الرهبان و"السوريلات" الذين كانوا يعملون في المشافي* وبقى الآلاف في ولاية طرابلس* بما فيها العاصمة والمدن والجبل حيث مزارعهم وأعمالهم. 

ومن لم يستطع الهروب إلى إيطاليا التي كانت في حالة حرب ودمار* فضّل البقاء في طرابلس* ولكن كسير الجناح* في فقر وعوز وذل* يخاف من انتقام الليبيين* حتى وصل الحال بأولئك الايطاليين وبأولادهم أن يتسولو مع أولاد العرب في الشوارع* وهم في حالة يرثى لها* بل حتى أن بعضاً من بنات الطليان تعهرن للعيش* وفي الماضي القريب كن يرفضن مضاجعة العرب* ولكن خوفهم كان أكثر من الإنجليز وحلفائهم الذين أمعنوا في إهانة جاليتهم في ليبيا* وكانوا يؤلّبون الليبيين عليهم* ليس حباً في العرب* ولكن كرهاً في الطليان الفاشست.

وبعد أن مضى ديل بوكا في التحدث عن عدالة الله عز وجل والتي تجلت بما أصاب الطليان على أيدي الإنجليز وحلفائهم* فلقد اعتدى بعض البرقاويين على بعض الطليان* على الرغم من النداءات المتكررة من القيادات والوجهاء بعدم الجنوح إلى الانتقام* وتقدمهم الأمير إدريس ببياناته بعدم الإنجرار إلى ردود الفعل وغريزة الثأر* ولكن ما قامت به قوات الحلفاء وخاصة الإنجليز والأستراليين من اعتداءات على الطليان جر بعض الليبيين إلى شهوة الانتقام* حتى أنه قيل إن أحد رجال قبائل الحرابي في الجبل الأخضر وجد مستوطناً في أرضه* فأراد أن يهينه كما أهانه بانتهاك أرضه التي بمثابة عرضه* فقبض على ذلك المستوطن* وزين وجهه بزخارف الوشم* وألبسه رداءً* كما يفعل بالحسان البدويات* وأبقاه في بيته كالمرأة المحجور عليها.

وقد أخبرني الحاج محمد موسى بوخبز المنصوري - أحد رجال الجيش السنوسي ممن شارك في تفجير ناقلة الوقود الألمانية في ميناء بنغازي مع أفراد قوات كوماندوز الحلفاء - وقص علي كيف استنجد به أحد الطليان عندما دخل ثلاثة من الاستراليين واغتصبوا زوجة وابنة ذاك الايطالي في وسط بنغازي* فما كان من محمد بوخبز إلا أن يطلق الرصاص على أولئك الاستراليين المخمورين حتى الثمالة* فيلوذ ثلاثتهم بالهرب وهم يجرجرون سرواليهم تحت الركب. 


* غراتسياني أصبح أضحوكة 

لقد لقي غراتسياني من الإهانة والأذى ما يجل عنه الوصف* ومات في أحد المستشفيات مذموماً مدحوراً* وكان أصدق وصف لهذا الدموي ما قاله عنه الملحق العسكري الألماني في روما* إينو فون رنتيلين* حيث كتب لحكومته يقول: "إن غراتسياني أقام شهرته في ليبيا والحبشة في معارك مع مقاومة شعبية سيئة التسليح* لكنها غنية في شجاعتها* لكن هذا الدعي حين وضع في مواجهة جيش نظامي مسلح بأحدث الأسلحة انكشفت قدراته الحربية الحقيقية* فإذا به يتحول من أسطورة إلى أضحوكة"* واختفى معه عن المسرح مقتولين أو مأسورين رفقاؤه أمثال ماليتي* وبيرقانزولي* وقالينا* وبيتاسي مانيلا* وتراكيا* الذين وصلوا مثله إلى أعلى الرتب بسهولة في ميادين استعمارية ضد المدنيين الأبرياء.

محاولة اغتيال غراتسياني 

خاف الحلفاء على غراتسياني من الاغتيال في سجن الجزائر بعد استسلامه* وقد سبق له وأن تعرض لمحاولة اغتيال في أثيوبيا عندما ألقيت عليه رمانة من أحد الإرتريين* وقبلها محاولات عديدة قام بها عيسى الوكواك العرفي انتقاماً لعمر المختار* الذي كان من المخلصين له* وأحد رجال المهام الصعبة* فحاول اغتيال غراتسياني في مقر إقامته مرات عدة* فكانت تعترضه أحياناً الأسلاك الشائكة* وأحياناً الكاشفات الكهربائية أو كلاب الحراسة وغير ذلك من العوائق* وبعد ما أمنه دايوديتشي على حياته شريطة أن يسلم نفسه* حيث وصل الحال بالوكواك ما لا يطاق من جوع ومرض* حتى أنه قيل إن أظفاره التفت على أصابعه وغطى شعر رأسه ووجه جمجمته* ولكن غراتسياني لم يعجبه ذلك وكعادته في نكث العهود* أمر بأن عيسى إذا وجد ميتاً فإنه يجب إعدامه مرة أخرى من باب التمثيل به* وتزامن ذلك مع موجة من حملات الرأي العام الإيطالي في برقة ضد العفو عن الوكواك* فأخذ الوكواك وأعدم في الترية غرب بنغازي بعدما أُعفي عنه. 

مبالغات غراتسياني وبلاغته 

مما لا شك فيه أن غراتسياني كان رجلاً مثقفاً صاحب قلم سيال* وخطيب مفوه* فعُرف ببلاغته* وأسلوبه العسكري في التخاطب* حتى أن بادوليو يصف كتابه "نحو فزان" بأنه "جاء سرده واضحاً سهلاً جذاباً لدرجة أنه من الصعب أن يجد فيه القارئ ما يجعله يتوقف عن الاستمرار في قراءة هذه الصفحات".

فهو القائد الميداني الذي سحرته أفريقيا وصحرائها* فدرس العربية والتيقرينية (Tigrinya لغة بعض أهل الحبشة واريتريا)*  وإن لم يتقنهما* كما سلط بعض الضوء على بعض تاريخ ليبيا وتضاريسها* وحاول أن يشرح تفاصيل التركيبة القبلية الليبية في كتابه نحو فزان* ويبدو أنه استعان أو استعار بعض الأعمال التي أشرف عليها العقيد انريكو دي اغسطيني Enrico De Agostiniفي كتابيه الشهيرين "سكان طرابلس* وسكان برقة"* وغراتسياني هو الوحيد الذي ترك لنا كتباً ذكر فيها - ولو بشيء من الخبث - بعض ما جرى إبان حملات الترويع والتقتيل التي قادها في ليبيا* معللاً ذلك بفخر بأنه كان دفاعاً عن الوطن* فقد كان كثير التدوين والإطلاع والقراءة لما يدور حوله* وهذا ما زاد في غروره* وعند استعراض مؤلفاته لا يخفى استئثار ليبيا بالكم الأكبر من تدوينه ومذكراته* ومرجع ذلك في نظري هي المقاومة التي قوبل بها في ليبيا* وأثر رجالها على مسيرته العسكرية في ربوعها.

كما كان متابعاً للإعلام لدرجة أنه أبدى حساسيته من الصحافة العربية والإسلامية التي بدأت تشن - فيما رآه - حملة مضادة ومشوهة له ولإيطاليا في ليبيا* ودوّن امتعاضه من هذه "البروبوقاندا"* حتى أنه كلف الجنرال ايجيدي الذي كان متصرفاً على المناطق التي تقطنها قبيلة العواقير حول مدينة بنغازي* وكان يجيد عدة لغات* فكلفه غراتسياني بمتابعة ما تنشره الصحف عنه. ولم يقف عند هذا الحد بل بدأ يتصدى للأقلام الإيطالية التي بدأت تنال منه بعد فشله في تهدئة الأوضاع* خاصة في برقة قبيل القبض على الشيخ الرمز عمر المختار* فصب جام غضبه على أصحاب تلك الانتقادات اللاذعة التي وجهت له من بني جلدته* ووصفهم بذوي الأفكار المغرضة والمريضة الذين لا هم لهم إلا الشتم والانتقاد الهدام* ويذهب في وصفهم "بمعاول هدامة تعمل على هدم إنجازات الحزب الفاشستي* وإرجاع برقة إلى الوراء* وأبعادها عن الحضارة اللاتينية".
محاكمة غراتسياني

لم تقم لغراتسياني قيامة بعد هزيمته في ليبيا على يد البريطانيين وفي مقدمتهم قوة الصحراء الغربية البريطانية في بدايات عام 1941م* حيث لم يتأسس الجيش الثامن بعد* (5) ومع هذا توالت النكبات* ومع تقدم الوقت أيقن بان الاستسلام أصبح واقعاً للتعامل معه* فلم يتصرف كالقائد الغيور على قضيته كما فعل الشيخ عمر المختار الذي قاتل إلى أخر رمق* بل سلم غراتسياني نفسه خانعاً مقهوراً إلى القوات الأمريكية في نهاية أبريل عام 1945م* ليمكث ما يقرب الشهر في ذل الأسر في معتقل Cinecittà بروما* لينقل بعدها جواً إلى معتقل في مدينة الجزائر كأسير حرب عند الأمريكان* وحتى لا تصله فرق البارتيجان الشيوعية التي كانت تريد تصفية الفاشية جسدياً بعدما فعلت معنويا. 

بقى غراتسياني حبيساً في الجزائر حتى فبراير 1946م* العام التي ألغيت فيه مملكة إيطاليا وأحلامها الرومانية التي استمرت من عام 1861م إلى 1946م* فرجعوا بغراتسياني إلى إيطاليا* وبينما كان في المعتقل كتب كتاباً شرح فيها معللاً خيبته* وما جرى له في حروب إيطاليا بعنوان: دفاعاً على أرض الوطن Ho Difeso La Patria. 

سلم الحلفاء غراتسياني إلى الطليان في 1950م* وأودع سجن San Vittore في ميلانو* وكان يفترض أن يقدموه للمحاكمة* كما فعلوا (أي الحلفاء) مع النازيين الألمان الذين ارتكبوا جرائم ضد الإنسانية* على جرائم المعتقلات التي نصبوها ليهود أوروبا* على الرغم من أن الطليان بقيادة غراتسياني* كادوا أن يفنوا أهل برقة وهون في المعتقلات التي نصبوها لهم في الصحراء قبل أن تخطر على بال النازيين.

التقطته السلطات الإيطالية الجديدة المناهضة للفاشية* وفي المحكمة شهد ضده الجنرال دادويتشي* الذي بُرئ من نفس المحاكم* ويذكر الدكتور محمود التائب مترجم كتاب ديل بوكا أن غراتسياني استخدمت ضده تهمة حبسه للنقيب لونتانو الذي كان محامياً لعمر المختار لمدة 10 أيام لدفاعه المستميت عن موكله*  (عوضاً عن محاكمته وإعدامه الجائر لعمر المختار الذي لم يراعِ فيه حتى شيخوخته)* وقد أدين غراتسياني لتعاونه مع النازيين والجرائم التي ارتكبوها في الطليان* وكذلك لكونه وزيراً للدفاع في جمهورية الشمال الفاشية* وهذا المنصب كان قد أرغم عليه خائفاً من انتقام النازيين الألمان* ولم يحاكم على جرائم الحرب التي ارتكبها في المستعمرات* ومن ثم تم تجريده من جميع رتبه العسكرية والنياشين* بما فيها رتبة ماريشال ايطاليا* وحكمت المحكمة في 2 مايو 1950م بالسجن على غراتسياني* وكادوا أن يحكموا عليه بالإعدام لولا تدخل رجال* الدين ومنهم فاكينيتي أسقف طرابلس*  وحكموا عليه 19 سنة* ولكنه قضى منها اشهر* بعدما خُفف الحكم* ليقضي ما يقرب من أربع سنوات ونصف* وهي بالفعل ما قضى حبيساً* على حسب ما فصل* كاتب سيرته* بيرو بيسينتي Piero Pisenti.

أطلق سراح غراتسياني في أغسطس عام 1950م وركن إلى منطقة Affile* شرق روما* وتولى من جديد رئاسة فخرية لنادي سياسي جديد لكي يمنع انفصال بعض جماعات الشمال التي أبدت امتعاضها من الجنوب الإيطالي الفقير* وهكذا كانت نهاية غراتسياني* فقد انسحب نهائياً من الحياة السياسية* وقد أخبرني الصديق الدكتور إبراهيم المهدوي بأن غراتسياني قد أجريت له عملية الزائدة الدودية* وإزالة ماء العين* ومن ثم انتابته حالة اكتئاب شديدة لما آل إليه حاله* وسوء خاتمته* ومن بعدها أصيب بنوبة قلبية أدت إلى وفاته في 11 يناير عام 1955م في روما* وقد شيع جثمانه عدد لا بأس به* جلهم من أنصاره* وأيتام الفاشية* لتطوى صفحة بشعة من تاريخ ايطاليا الاستعمارية* ولكن تأثيراتها النفسية والمادية مازالت مدوية فينا جيلاً بعد جيل* وهذا ما لم يفهمه الطليان.