مع ذلك، السؤال الفرعي الأوَّل الذي يفرض نفسه: هل ما يجري اليوم بين طهران وتل أبيب هو "حرب" بالمعنى الكامل؟ أو أنَّها لا تزال في منطقة الضربات التكتيكية المتبادلة؟ في رأيي، نحن أمام تصعيد يتجاوز ردات الفعل العسكرية المعزولة، ليأخذ شكل مواجهة إقليمية معقَّدة، تقف خلفها قوى كبرى، على رأسها الولايات المتحدة، زعيمة وسيدة حلف "الناتو". فإسرائيل ليست وحدها. فكل قنبلة تسقط على طهران تحوي بصمة غربية واضحة. وأميركا تريد إيصال رسالة صارخة: "لا مجال لتعدد الأقطاب، القطبية الأحادية الأميركية خط أحمر". وهي بذلك لا تواجه إيران فحسب، بل تبعث بتحذير مبطَّن إلى روسيا، والصين، وتركيا، وباكستان. أي دولة تحاول كسر الهيمنة، ستجد إسرائيل في وجهها، كذراع ضاربة للبيت الأبيض.
حرب أم سيناريو مدبَّر؟ وقد يكون هذا بين أسئلة الجمهور العربي الحائر: هل كنّا مخدوعين طوال الوقت؟ هل كانت إيران حقًا عصا أمريكا الطويلة لتخويف الخليج؟ وهل نحن الآن نعيش صحوة مفاجئة تفضح لعبة قديمة؟ آمل أن تعليقي عليه صائبًا. "نحن ضحايا إعلام محتل، مركوب وموجَّه، لا نقرأ التاريخ، ولا نحلِّل الواقع ونضع مقارنات، بل نردِّد ما يُقدَّم لنا على الشاشات". فكرة "المؤامرة" التي تُستخدم لتفسير كل شيء، أصبحت نفسها أداة في الحرب النفسية. فمرة يُقال عن حزب الله إنه صناعة إسرائيلية، ومرة عن حماس، ومرة عن الأسد، واليوم عن إيران. لكن الحقيقة، في نظري، أن أميركا لا تصادق أحدًا إلى الأبد، ولا تعادي أحدًا إلى الأبد. بل تسير وفقًا لمصالحها، وتبدّل الأدوات حسب الحاجة. وهنا يتَّضح أن ما يجري الآن ليس مسرحية بين "عملاء"، بل معركة حقيقية على إعادة ترسيم النفوذ.
بين المطرقة الإسرائيلية والسندان الإيراني: هل نحن على أعتاب حرب عالمية ثالثة؟
عندما نرى الطائرات الإسرائيلية تقصف قلب طهران، وترد إيران بوعد "ضربة غير مسبوقة"، بينما تتحرَّك البوارج الأميركية في الخليج، وترتفع أصوات الباكستانيين تأييدًا لطهران، لا يمكن تجاهل أننا نقترب من "النقطة الحرجة". فإذا سقطت إيران، سقط محور بكامله، وسيفقد الروس والصينيون أي فرصة للنفوذ في المنطقة. أي حرب تُخاض ضد إيران، في جوهرها، هي حرب على تعدُّدية القطبية.
في الإعلام، من يصفع من؟
وسط كل هذا، يظهر الإعلام العربي عاجزًا، أو متواطئًا. هناك من يخلط التحليل بالدِّعاية، ومن يحاول ترويج فكرة أن كل شيء مسرحية. لكن ما أصبحت أقتنع به هو من يقصف تل أبيب، تُقطع يده في العقيدة الأمنية الإسرائيلية. إيران فعلت ذلك، والرد سيكون مدمِّرًا. إذًا، لا حديث عن مسرحية، بل عن معركة وجود. ومشاهد الخراب والدمار تشير إلى ذلك: الضربات العسكرية بين إيران وإسرائيل لم تعد مجرَّد تبادل تقليدي للنيران أو رسائل نارية عابرة، بل باتت – وفقًا لما يُطرح اليوم من تحليلات ومؤشرات – جزءًا من مشهد إقليمي ودولي بالغ التعقيد، تتداخل فيه مشاريع التفوُّق، والأدوار التاريخية، والتوازنات الجيوسياسية الكبرى. أنظر! افتح عينيك جيدت! ففي قلب المشهد، المفاعل النووي الإيراني يعود إلى الواجهة؛ لا لأن إيران على وشك إنتاج القنبلة النووية، كما يزعم الخطاب الإسرائيلي، بل لأن البرنامج النووي أصبح رمزية كبرى لاستقلالية القرار الإيراني ورفضه الهيمنة الغربية والإسرائيلية على المنطقة.ولو كانت إيران تطمح لإنتاج السلاح النووي لفعلت ذلك منذ أكثر من عِقد، ولكنها اختارت الشفافية النسبية والمفاوضات، بينما الطرف الأخر يصرّ على تفوُّق نووي مطلَق لإسرائيل يرهب به مستعمراته المستقبلية.
نتنياهو.. مشروع تاريخي أم هروب للأمام؟
في صلب الحديث الرائج، جرى تسليط الضوء على شخص رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، ليس فقط باعتباره قائدًا سياسيًا، بل كصاحب مشروع توسُّعي شخصي يريد أن يخلِّده التاريخ بأنَّه من وسّع حدود إسرائيل، تمامًا كما أسّسها «بن غوريون». من هذا المنطلق، تفسّر الضربات المكثفة على قطاع غزة، وأخيرًا على إيران، كمحاولة لتكريس هذا الدور التاريخي، وربما غسل صورة إسرائيل التي تلطَّخت بفعل المجازر في قطاع غزة.
الشرق الأوسط الجديد: تفكيك القوة لا التسويات
في اعتباري، ما يجري ليس صراعًا ثنائيًا بين إيران وإسرائيل، بل جزء من مشروع أوسع تقوده الولايات المتحدة وإسرائيل لإعادة تشكيل المنطقة على أساس تفكيك مراكز القوة، خصوصًا إيران وتركيا. وهذا يخدم في المقام الأول التوجه "أمريكي-إسرائيلي"، الذي يهدف إلى ضرب كل من يمتلك مقاومات الدولة القوية: عسكريًا، نوويًا، اجتماعيًا أو ثقافيًا. هذا المشروع، كما يُوصف، لا يكتفي بإضعاف "العدو"، بل يهدف إلى استبدال البنية الجغرافية السياسية نفسها، بتفتيت دول كالعراق وسوريا والسودان، وإنشاء كيانات جديدة كدولة الأكراد، ودولة الدروز، وتأسيس "جامعة شرق أوسطية" تحل محل "جامعة الدول العربية"، تكون إسرائيل مركز ثقلها.
الاختراقات الأمنية: ضعف أم معركة غير متكافئة؟
اغتيال قادة كبار في الحرس الثوري الإيراني – بمن فيهم رئيس استخباراته – يثير تساؤلات مشروعة حول مدى اختراق إسرائيل للمنظومة الأمنية الإيرانية. لكن المسألة ليست في غياب التحصينات الإيرانية، بل في التفوُّق التكنولوجي الهائل لإسرائيل المدعوم أمريكيًا، من أقمار صناعية، وذكاء صناعي، وتجسُّس رَقمي معقَّد، بل وحتَّى إمكانيات الوصول إلى أعلى القيادات، كما ألمح «ترامب» حين تحدث عن اقتراح خطة لاغتيال المرشد «الإيراني خامنئي»، وجرى إهمالها .
الردع النووي: باكستان وإيران وعتبة الخطر
التصريحات الإيرانية الأخيرة التي تحذّر الفلسطينيين من الاقتراب من المنشآت النووية، إلى جانب تهديدات برد نووي، وتعاطف باكستان العلني بإعلان استعدادها لاستخدام السلاح النووي إذا استخدمته إسرائيل، ترفع من مستوى الخطر. في هذا السياق، يُطرح السؤال الجوهري: هل نحن على أبواب حرب نووية؟ إن السيناريوهات مفتوحة على مصراعيها أزاء هذا، خاصة مع تراجع قدرة المجتمع الدولي على فرض هدنة، ووجود دول كروسيا والصين لن تقبل بكسر إيران باعتبارها جزءًا من محور مضاد للهيمنة الأمريكية. من هنا تصبح أي معركة مع إيران، ليست حربًا محدودة، بل بوَّابة لاحتمالات دولية كارثية.
عقيدة المقاومة في مواجهة مشروع التفوق المطلق
رغم التفوُّق التقني والعسكري الإسرائيلي، ورغم كثافة الاستهداف، فإنَّ روح "العقيدة" – كما وصفها بعض المحلِّلين – تظلُّ ركيزة محورية في بقاء محور المقاومة. إيران ليست دولة هشَّة، بل دولة واجهت حصارًا، واغتيالات، وحروبًا بالوكالة، وخرجت دومًا بصيغة جديدة للمواجهة.
وفي هذا المفصل الحرج، تبدو المنطقة وكأنها بين مشروعين: مشروع المقاومة اللامركزية الذي تقوده إيران ومحورها، ومشروع "إسرائيل الكبرى" التي تطمح لأن تكون قاطرة قيادة شرق أوسط جديد تحت عبَّاءة التطبيع أو الامم الملجومة التابعة لها كليا وتتمتَّع بحمايتها.
السؤال الآن ليس إن كانت إيران سترد، أو إن كانت إسرائيل ستواصل ضرباتها، بل: هل بقي في هذا الشرق من هو مستعد ليرفض فكرة الهيمنة الكاملة ويخوض حرب إرادات فعلية؟ وهل سيكون الرد نوويًا، سياسيًا، أم استنزافًا طويل الأمد؟
خلاصة: العواجيز يقرِّرون.. والدماء تسيل
العالم اليوم لا تُحكمه المؤسَّسات بل أهواء العصابات. «ترامب» يسعى للعودة بأي ثمن، و«نتنياهو» يريد تثبيت سلطته على أنقاض قطاع غزة وطهران، و«خامنئي» يخوض معركته الأخيرة لحماية إرث الثورة.
لكن بينما "العواجيز" الثلاثة يخططون، هناك شعوب تموت، وأطفال يُدفنون تحت الأنقاض في غزة، وسوريا، وإيران. السؤال الآن: هل من سبيل لعقلٍ رابع يوقف هذا الجنون؟ أم أن التاريخ كُتب بلون الدَّم، وسيمضي إلى نهايته المحتومة؟ الأرض بما حبلت تتسع وتكفي الجميع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق