![]() |
رئيسة الحكومة الإيطالية، «جورجا ميلوني»، إلى جانبها وزير الزراعة، «فرانشيسكو لولّوبريجيدا» |
هذه الأرقام تتناقض مباشرةً وبوضوح لا لبس فيه مع ما صرَّحت به رئيسة الوزراء «جورجا ميلوني» في 28 أبريل 2024، حين قالت إنَّ «الدَّين العام يعود إلى أيدي الإيطاليين بفضل نجاح إصدارات BTP Valore». وفي المقابل، شهد الدَّيْن العام للإدارات الحكومية ارتفاعًا قَدْرُه 30.1 مليار يورو خلال شهر واحد، ليبلغ إجمالي الدَّيْن 3,063.5 مليار يورو.
تركيبة الدَّيْن أهمٌّ من حجمه
على عكس ما تُروِّج له بعض الخطابات الاقتصادية ذات الطابع النيوليبرالي، لا يُعتبَر حجم الدَّيْن العام بحد ذاته المشكلة الجوهرية، بل تَكمُن الإشكالية في نسبته إلى "الناتج المحلي الإجمالي" (GDP)، وفي طبيعة الجهات المالكة لهذا الدَّيْن. إلى ذلك، تبرز أهمية حجم الإنفاق على الفوائد السَّنوية للدَّيْن، والتي يُمكِن أن تُشكِّل عبئًا كبيرًا على المالية العامَّة.
وتُعدُّ تركيبة الدَّيْن من حيث حامليه من من أبرز مؤشِّرات المخاطر: فارتفاع نسبة الدَّيْن في أيدي الأسواق المالية وصناديق الاستثمار الأجنبية يزيد من هشاشة الدَّيْن، لأنَّ هذه الجهات قادرة على بيع السَّنَدات بشكل مفاجئ، ممَّا يضغط على أسعارها ويؤدِّي إلى ارتفاع العوائد عليها. وهذا يعني، عمليًا، أن من يملك الدَّيْن العام الإيطالي يمتلك أيضًا القدرة على التأثير في القرار السياسي الإيطالي، من خلال التهديد بسحب استثماراته.
هيمنة أجنبية على الدَّيْن الإيطالي
تشير بيانات مارس إلى أنَّ %32.4 من الدَّيْن العام الإيطالي مملوك لمستثمرين غير مقيمين – أي أفراد ومؤسَّسات مالية أجنبية – وهي نسبة آخذة في الارتفاع منذ تسجيل أدنى مستوياتها (%26.1) في مارس 2023، رغم أنَّها لا تزال من دون الذِّروة المسجَّلة في أكتوبر 2009 (%41.3). لكن من الخطأ الافتراض بأن ما تبقَّى من الدَّيْن مملوك للعائلات والشركات الإيطالية، إذ تُظهر آخر البيانات أنَّ %20.2 من الدَّيْن مملوك لـ "بنك إيطاليا"، و %20.4 لبنوك مركزية أو تجارية أخرى، و %12.4 لمؤسَّسات مالية مثل "كاسَّا ديبُّوزيتي إي بريستيتي" (صندوق الإيداع والقروض). ولا تتعدَّى النسبة المملوكة من قبل ما يُصنَّف بـ"السكان الأخرين" – أي العائلات والمستثمرين الأفراد – %14.4.
ويُظهِر "تقرير الدَّيْن العام 2023" الصادر عن وزارة الاقتصاد والمالية أنَّ المصارف استحوذت على الحصة الأكبر (%39) من إصدارات سندات BTP طويلة الأجل، تليها صناديق الاستثمار بنسبة %24.7، ثم المصارف المركزية والمؤسَّسات الحكومية بـ %24.2، فصناديق التقاعد وشركات التأمين (%6.3)، وأخيرًا صناديق التحوُّط (%5.8).
الفوائد على الدَّيْن: القصَّة الحقيقية وراء تصاعده
من يملك الدَّيْن يتحكَّم أيضًا بكلفته. إذ تؤدي الهيمنة الأجنبية على السندات الإيطالية إلى ارتفاع تكلفة الاقتراض، في ظل غياب "المُقرض الأخير" – أي بنك مركزي يضمن السَّندات – مما يدفع المستثمرين إلى المطالبة بعوائد أعلى مقابل المخاطرة، ويزيد من الضَّغط على المالية العامَّة.
تعود جذور الأزمة إلى ما يُعرَف بـ"الطلاق" بين "وزارة الخزانة" و "بنك إيطاليا" عام 1981، بقرار من الوزير الأسبق «بنيامينو أندرياتا» ومحافظ البنك آنذاك «كارلو أزيليو تشامبي». أدَّى هذا الانفصال إلى وقف التزام "البنك المركزي" بشراء السَّندات الحكومية، ما رفع معدَّلات الفائدة بصورة حادة. بين عامي 1981 و1984، تضاعف الإنفاق على الفوائد من %4 إلى %8 من الناتج المحلِّي. ووفقًا لـ "المديرية العامة للمفوضية الأوروبية" (يوروستات)، دفعت إيطاليا في عام 2022 أعلى نسبة من الفوائد على الدَّيْن العام في الاتحاد الأوروبي، بلغت %4.4 من الناتج المحلي، مقارنة بـ %3 في المجر، و %2.7 في اليونان، و %2.4 في إسبانيا، بينما كان المتوسِّط الأوروبي %1.7.
دَيْنُ الفوائد وليس دَيْنُ الإنفاق
تشير المعطيات الأخيرة بشأن ارتفاع نسبة الدَّيْن العام الإيطالي المُحتفَظ به من قبل مستثمرين أجانب، إلى ضرورة إعادة النَّظر في السَّردية السَّائدة التي تربط تفاقم الدَّيْن بإنفاق مفرط أو بعيش "فوق الإمكانيات". فالواقع، بحسب الخبراء، أنَّ السَّبب الرئيسي لتضخُّم الدَّيْن العام لا يعود إلى عجز في المالية العامَّة، بل إلى حجم الفوائد المرتفعة التي تُدفَع للمؤسَّسات المصرفية والمستثمرين من القطاع الخاص.
وفي هذا السِّياق، تُظهِر البيانات الاقتصادية أن إيطاليا تُعدّ من بين أكثر الدول اِلْتزامًا بالانضباط المالي في أوروبا وعلى المستوى الدولي. ففي السنوات الثلاثين الأخيرة، سَجَّلت البلاد فائضاً أوليا مستمرا، أي أن الإنفاق العام كان دائماً أقل من الإيرادات، عند استثناء مدفوعات الفوائد على الدين.
وتدعم هذه النتائج تقارير "صندوق النقد الدولي"، الذي يحتفظ بقاعدة بيانات للفوائض الأوَّلية كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي في 115 دولة منذ عام 1990. ووفقًا لتصنيف الصندوق، جاءت إيطاليا في المرتبة الحادية عشرة عالميًا، بفائض أولي سنوي متوسِّط يبلغ %1.75 من الناتج المحلي الإجمالي.
انعدام السيادة الاقتصادية
أزمة الدين الإيطالي ترتبط ارتباطًا مباشرًا بانعدام السيادة الاقتصادية والنقدية، التي تُعد بدورها شرطًا أساسيًا للسيادة الجيوسياسية والطاقة والسياسات الدولية. فقد تنازلت إيطاليا تدريجيًا عن هذه السيادة بدءًا من "الطلاق" بين الخزانة والبنك المركزي، ثم عبر الانضمام إلى "النظام النقدي الأوروبي" (SME)، وأخيرًا مع دخولها "منطقة اليورو"، ما جعلها أكثر عرضة لتحكم الأسواق المالية الدولية.
وباتت مؤسسات كبرى مثل BlackRock وVanguard وState Street – التي تدير أصولًا تفوق ناتج دول بأكملها – تملك نفوذًا متزايدًا داخل الاقتصاد الإيطالي. وفي سبتمبر 2024، التقت رئيسة الوزراء ميلوني بالمدير التنفيذي لـBlackRock، «لاري فينك»، في "قصر كيجي" لبحث فرص استثمار الصندوق الأمريكي في البلاد. ويرى المؤرخ «أليساندرو فولبي» أن اللِّقاء ربَّما شهد طلبًا من «ميلوني» لشراء جزء من الدَّين الإيطالي مقابل تسهيلات مستقبلية في مسار الخصخصة.
الدولة في قبضة الأسواق
يتَّضح من البيانات والتوجُّهات أنَّ الدَّيْن العام الإيطالي لا يعود إلى أيدي الإيطاليين كما يُروج، بل يزداد وقوعه في قبضة الأسواق العالمية والصناديق الأجنبية، بالاخص الأمريكية منها، التي يُنظر إليها من قِبل كثيرين على أنها "السادة الحقيقيون" للنظام العالمي المالي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق