في خضم النقاشات المتنامية حول النفوذ الصيني، تثار مخاوف من سيناريوهات توسُّعية قد تطال مناطق ذات فراغ استراتيجي وأهمية حيوية. من باكستان إلى الخليج، ومن العراق إلى "قناة السويس" أو أدناها، تطرح تقديرات متشائمة تفترض أنَّ الجيش الصيني قد يستغل غياب قوى ردع فعّالة لفرض سيطرته على مفاصل جغرافية حيوية، منها "مضيق هرمز"، "باب المندب"، وحتى الحرمين الشريفين في مكة والمدينة. هذه التقديرات ليست مبنية على معطيات مؤكدة، لكنها تعكس تصاعد الشعور بالخطر مع تضعضع الأنظمة الدفاعية في بعض دول المنطقة، وتآكل مكانة القوى التقليدية، لاسيما في ظل حالات الانهيار السريعة التي شهدتها جيوش مثل الجيش السوري في السنوات الأخيرة.
التقديرات العسكرية تشير إلى أنَّ الصين باتت جاهزة – أو تكاد – لخوض صراع عسكري عالمي واسع النطاق. الرئيس الصيني، وقد بلغ من العمر عتيًا، قد يرى أنَّ استعادة تايوان تمثِّل ذروة الإنجاز السياسي والعسكري في حياته، لا سيما أنَّ الصين تنظر إلى الجزيرة على أنها "جزء لا يتجزَّأ من الوطن الأم"، فضلًا عن أهميتها الاستراتيجية، إذ تحتضن كبريات مصانع أشباه الموصلات التي تُغذي الاقتصاد العالمي.
لكن خطر الصين لا يتوقَّف عند حدود تايوان. بل إن بعض السيناريوهات التحليلية تفترض إمكانية تحرُّك صيني مفاجئ عبر وسط آسيا والشرق الأوسط، لملء الفراغات الجيوسياسية التي خلّفها تراجع النفوذ الأميركي أو تخبُّطه.
دعني عزيزي القارىء أعرض عليك بعض هذه اليسناريوهات المفترضة، والتي منطقيا تتمتع بأسس تحليلية قريبة جدا من أن تكون أحد الأسباب في اندلاع حرب عالمية تميزها الأحزاب وتنصهر فيها العقائد. أولًا، لأنَّ تايوان هي قلب التكنولوجيا. لماذا؟ لأنَّ جميع الصناعات الصينية الحديثة – من الطائرات إلى الإلكترونيات – تعتمد على الشرائح الدقيقة (Microchips) التي تُنتج في تايوان. ومع تصاعد العقوبات الأمريكية على هذا القطاع، يُدرك قادة الصين أن فقدان تايوان يعني نهاية الطموح الصناعي والتكنولوجي. وبالتالي، فإنَّ احتلال تايوان لم يعد خيارًا سياسيًا، بل ضرورة استراتيجية لبقاء الصين كقوة صناعية.
ثانيًا، لأنَّ سياسات الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» (والتي لا تزال حية لدى الحزب الجمهوري) تدعو إلى فرض رسوم جمركية على البضائع الصينية، وتقليص الاعتماد على الخارج، وعودة الشركات الأمريكية من الصين إلى الولايات المتحدة.
لو تحقَّقت هذه السياسة، فإنَّ الصين ستفقد أسواقها، وعلماءها، واستثماراتها، مما يعني أنها ستُجبَر على رد الفعل العسكري، خاصة إذا خسرت تايوان.
ثالثًا، لأنَّ الصين محاطة بدول ضعيفة عسكريًا (فيتنام، إندونيسيا، ماليزيا، أفغانستان، باكستان، إيران)، ما يجعل أي صراع إقليمي لصالحها. هذه الدول لا تستطيع مقاومة الزحف الصيني إذا بدأت حرب شاملة، وهو ما يُغري القيادة الصينية بخوض مغامرة توسُّعية.
وأذكرك عزيزي القارئ بان «ترامب» نفسه أعلن صراحةً أن الصين هي العدو الأول، ويطرح فكرة إعادة روسيا إلى التحالف الغربي لكسر الحلف الصيني–الروسي. لذا، من المحتمل أن يُنهي حرب أوكرانيا بتسويات إقليمية، ويعيد ترتيب أولويات أمريكا، بعيدًا عن تفكيك الشرق الأوسط، نحو التركيز على المواجهة الكبرى مع بكين. لكن ماذا بعد ترامب؟ المشكلة تكمن في أن ترامب، رغم حضوره القوي، ليس خالدًا. وحتى إن فاز بولاية جديدة، فمصيره السياسي والزمني محدود. الإعلام، المؤسسات، والشارع الأمريكي بات في قبضة اليسار. ومع ارتفاع معدلات الإلحاد، انهيار الأسرة، وشيخوخة السكان، تبدو أمريكا وكأنها تسير نحو تراجع حضاري حتمي. فمن يقود العالم بعد أفول الغرب؟ وهل الصين قادرة على ذلك؟ الصين نفسها لا تبدو مؤهلة للقيادة الحضارية: يعزى ذلك إلىعدة أسباب واعتبارات، بين أمور أخرى، لأنها. فرغم تفوقها التكنولوجي، هي تعاني من أزمة ديموغرافية خانقة، وانحدار في منظومة القيم الاجتماعية. هنا يظهر البديل: العالم الإسلامي. لكن هذا المسار لن يكون سهلًا، فكل من أمريكا والصين وروسيا ستقاتل لمنع ولادة أي قوة جديدة.
وما رأيك أن تكون القوة الجديدة التي تحكم العالم وتعيد ترتيب لعبة الشطرنج منبثقة من العملة الذهبية، وهنا أشير إلى العملة الموحدة التي يرعاها حلف "البريكس". هل نشهد حرب العملات، الدولار، اليوان، أو عملة البريكس؟ دعني أحصر حرب العملتين الصينية والأمريكية! فمسألة إنشاء عملة بديلة للدولار ليست اقتصادية فحسب، بل عسكرية في جوهرها. فالدولار لم يصبح عملة العالم لأن نظامه المالي متفوِّق، بل لأن الجيش الأمريكي فرضه بالقوة بعد الحرب العالمية الثانية. واليوم، إذا أرادت الصين أن تفرض اليوان، فعليها أن تربح حربًا كونية. وإلا، فكل المحاولات ستبقى حبرًا على ورق.
لكن المشكلة هي حتى انتصار الصين لا يعني خلاصًا، بل استبدال الهيمنة الأمريكية بهيمنة صينية ربما تكون أشد قسوة. وهذا ما يدعو إلى ضرورة بروز معسكر ثالث، تقوده قوة إسلامية مستقلَّة لا تابعة لواشنطن ولا لبكين. وأقرب من يملك هذه الإمكانية هي تركيا بتحالف مع باكستان وأفغانستان. لكن لتقود، تحتاج إلى توسيع قاعدتها السكانية، وامتلاك التكنولوجيا العسكرية، خصوصًا في مجالات الذكاء الاصطناعي والسلاح النووي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق