وفي خطوة مفاجِئة، عقد «سانشيز» مؤتمرًا صحفيًا في 22 يونيو—بعد يومين فقط من القمة—من دون حضور صحفيين، معلنًا عن التوصُّل إلى اتِّفاق مع الأمين العام الجديد لحلف "الناتو"، «مارك روته»، يُعفي إسبانيا من الالتزام بالرفع الكامل للإنفاق العسكري إلى %5، مقابل ضمان تحقيق ما يُعرف بـ"أهداف القدرات"، أي الحد الأدنى من الجاهزية العسكرية المطلوبة من الدول الأعضاء.
وبحسب «سانشيز»، فإن لجنة فنية لم يُكشف عنها قَدَّرت أنَّ نسبة %2.1 من الناتج المحلي تكفي لتحقيق هذه الأهداف، وهي تقديرات رفضها «روتّه»، مؤكِّدًا على أنَّ الحد الأدنى المقبول لا يجب أن يقل عن %3.5.
التزام مشروط مع الناتو
رغم ما أُعلن عن هذا "الاتفاق الخاص"، وقّع «سانشيز» في 25 يونيو على الالتزام بزيادة الإنفاق إلى %5 بحلول عام 2035، أُسوةً ببقية الدول الأعضاء، ما يطرح تساؤلات حول هامش المناورة السياسي الذي لا يزال «سانشيز» يحتفظ به. وبينما لجأ الرئيس الأمريكي السابق «دونالد ترامب» إلى لهجته المعتادة بالتهديد ضد من يُعارِض السياسات الأمريكية، تَمسَّك رئيس الوزراء الإسباني بموقفه، قائلًا إنَّ تجاوز نسبة %2.1 لن يكون مطروحًا، مضيفًا: "أن تكون أوروبيًا وأطلسيًا لا يعني الخضوع الأعمى، كما يُروِّج له بعض السياسيين في بلدنا".
وأثار هذا الموقف انقسامًا في الداخل الإسباني، إذْ اتَّهمه كل من "الحزب الشعبي" المعارِض و"فوكس" اليميني المتطرف بمحاولة تشتيت الانتباه عن فضائح الفساد داخل الحزب الاشتراكي من خلال افتعال مواجهة مع واشنطن، بينما مدحه الوزير اليساري «إرنست أورطاسون»، المتحدِّث بإسم حزب "سومار"، معتبراً أن "كرامة إسبانيا" فرضت رفض "المطالب الأمريكية غير المقبولة". وبدورهم، أيَّد الانفصاليون "الباسك" من حزب "إه بيلدو" موقف «سانشيز»، فيما سخر الناطق بإسم الانفصاليين الكتالونيين، «غابرييل روفيان»، من تهديدات «ترامب» قائلاً: "إغضاب ترامب دائماً أمرٌ جيد".
تراجع الاحتجاجات اليسارية
رغم الانتقادات السابقة من أحزاب اليسار لزيادة الإنفاق العسكري التي بلغت آنذاك %2 فقط، تراجعت وتيرة الاحتجاجات بشكل لافت، بعد إعلان «سانشيز» أنَّ الإنفاق الإضافي لن يؤثِّر على برامج الرعاية الاجتماعية ولن يتطلَّب أي خفض في الخدمات.
لكن حزب "بوديموس" اليساري رفض هذا الطَّرح، واتَّهم «سانشيز» بـ"خداع" الرأي العام من خلال تقديم اتِّفاق خاص لم يُنشَر رسميًا، بينما وقَّع فعليًا على الالتزام الكامل. كما أشار إلى أنَّ «سانشيز» يحاول استخدام صياغات لغوية غامضة في ميثاق "الناتو" للإيحاء بأنَّ الالتزام لا يشمل جميع الدول الأعضاء، بل فقط "الحلفاء"، في محاولة لإعفاء إسبانيا من الالتزام الكامل. وخَلُص الحزب إلى أنَّ الخيار الوحيد المتاح هو الانسحاب من "الناتو".
الموقف من إسرائيل: تضامن جهرًا وعلاقات خفية
فيما يتعلَّق بالعدوان الإسرائيلي على قطاع غزة، حظي «سانشيز» بتقدير واسع من اليسار الأوروبي بعد أن أعلنت حكومته الاعتراف بدولة فلسطين وعلَّقت بعض صفقات الأسلحة مع إسرائيل. غير أنَّ تحقيقًا استقصائيًا أجرته الصحفية «أولغا رودريغيث» كشف عن توقيع أكثر من 40 عقدًا بين الحكومة الإسبانية وشركات عسكرية إسرائيلية منذ 7 أكتوبر 2023، بما لا يقل عن 134 صفقة شراء أسلحة خلال فترة الإبادة في قطاع غزة.
ورغم علنية هذه البيانات، ظلَّ «سانشيز» ووزيرة الدفاع «مارغريتا روبليس» ينكران وجود أي تعاون عسكري مع تل أبيب. كما وُثِّقَت شحنات أسلحة إسرائيلية تمرُّ عبر الموانئ الإسبانية، آخرها يُتوقَّع أن تغادر ميناء برشلونة في 1 يوليو. أمَّا في ما يخص التصعيد الإسرائيلي ضد إيران، فقد التزم «سانشيز» الصمت، قبل أن يصدر لاحقًا تصريحًا يدين "السباق النووي الإيراني" من دون الإشارة إلى مسؤوليات واشنطن أو تل أبيب.
الفضائح الداخلية: تحدٍّ متصاعد
على الصعيد الداخلي، يواجه «سانشيز» ضغوطًا متزايدةً بعد فضيحة "كولدو"، التي تورَّط فيها وزير النقل السابق «خوسيه لويس أبالوس»، وأدَّت إلى استقالته. وفي مايو، كشفت وحدة التحقيقات في الحرس المدني أن «سانتوس سيردان»، أمين التنظيم في الحزب الاشتراكي وثالث أقوى شخصية فيه، استخدم نفوذه لترسية صفقات حكومية لصالح شركات كبرى مثل "أسيونا".
ورغم استقالة «سيردان» من جميع مناصبه، لم يُقدِّم «سانشيز» استقالته، مكتفيًا باعتذار علني، فيما تتزايد التكهُّنات بشأن استقرار الحكومة. ويبدو أنَّ مصير الائتلاف الحاكم معلَّق بخيط رفيع، بالاخص بعد أن فقد "سومار" دعم حزب "ميس" اليساري، أحد الشركاء الأساسيين، الذي انتقل رسميًا إلى صفوف المعارضة.
ومع ذلك، فإنَّ مصادقة المحكمة الدستورية الإسبانية في 26 يونيو على قانون العفو المثير للجدل، أعطت «سانشيز» دفعة سياسية، لاسيما في تعزيز علاقته بالحزب الكتالوني اليميني الانفصالي "خونتس"، الحليف الأصعب في الائتلاف.
ورغم الضغوط المتعدِّدة، يبدو أنَّ رئيس الوزراء الإسباني لا يزال واثقًا بموقعه، إذ أعلن بعد انتهاء قمَّة الناتو: "نعم، سأترشَّح مجدَّدًا في الانتخابات العامة عام 2027".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق