الإيطالية نيوز، الجمعة 11 يوليو 2025 – في عالم يتغيَّر بسرعة، حيث تندمج التكنولوجيا بالاستخبارات، والذكاء الاصطناعي بالمراقبة الشاملة، يبدو أن الحروب لم تعد تبدأ بالدبَّابات، بل بالمعلومة. التَّقرير الأخير الذي نشرته منصة التحقيقات الألمانية "دان وُوْتش" بالتعاون مع مجلة "دير شبيغل" يُسلِّط الضَّوء على مستوى مذهل من المعرفة الغربية حول المنشآت النووية الروسية، ليس فقط في موقعها، بل في تفاصيلها الداخلية الدَّقيقة.
ولأوَّل مرة، تُنشَر على الملأ صور وخرائط يُزعم أنَّها لمخابئ نووية روسية سِرِّية تحت الأرض، مزوَّدة برسومات تُوضِّح المداخل، المخارج، غرف نوم الجنود، دورات المياه، نقاط تخزين القنابل، بل وحتَّى نوعية مفصلات الأبواب! إنها رسالة صامتة لكنَّها صاخبة: "نحن نعلم كل شيء."
وفقًا للتقارير، استند المحقِّقون إلى أكثر من مليوني وثيقة حول مشتريات الجيش الروسي من شركات غربية، معظمها ألمانية ودنماركية. وبالاعتماد على الذَّكاء الاصطناعي، جرى تحليل هذه البيانات لتحديد مواقع الصوامع النووية وأنظمة البنية التحتية التّابعة لها، سواء في روسيا أو في جمهوريات حليفة مثل بيلاروسيا وكازاخستان. بعض هذه المعلومات جاءت من اختراقات رقمية، وبعضها الأخر من قواعد بيانات علنية ومنشورات رسمية.
المثير أنَّ بعض المواد المستخدَمة في بناء هذه المنشآت – مثل مواد العزل الحراري أو المِضخَّات والصَمَّامات – جاءت من شركات أوروبية مثل "دانفوس" و"كناوف" و"روكول". بل إنَّ بعض هذه الشركات، عن وعي أو بدونه، ساهمت في تعزيز القدرات العسكرية الروسية حتّى خلال وبعد الغزو الروسي لأوكرانيا.
تساؤل مشروع يطرح نفسه هنا: هل نحن أمام تحقيق صحفي، أم تسريب استخباراتي مُقَنَّع؟ من المعروف أن كثيرًا من المنصَّات الاستقصائية – خاصة تلك التي تعمل في بيئات أمنية حسَّاسة – تكون على ارتباط مباشر أو غير مباشر بأجهزة استخباراتية. ولا يبدو مستبعَدًا أن يكون هذا النَّشر جزءًا من "حرب نفسية" موجَّهة إلى روسيا، لتقول: "نعلم أماكنك المحصَّنة... ونعلم كيف نفكِّكها."
بلغة الحرب الباردة، هذه خطوة أقرب إلى "عرض للعضلات المعلوماتية". فهي لا تُطلِق صاروخًا، لكنَّها تَهُزُّ الثِّقة بالنَّفس لدى القيادة العسكرية الروسية، وتشير إلى أنَّ حتّى المواقع التي بُنيت تحت طبقات من الأرض، وبأنظمة تحصين معقَّدة، لم تعد آمنة من العيون الغربية.
تكشف التقارير أنَّ الغرب لا يكتفي برصد ما يحدثُ بناؤه، بل كيف يُبنى ولماذا. فحتّى تصميم دورات المياه، وأسلاك الكهرباء، ومخارج التهوية، كلُّها تخضع للدراسة. ليس لأنَّ الغرب ينوي مهاجمة هذه المواقع غدًا، بل لأنَّه يريد أن يكون جاهزًا إذا استدعى الأمر. في الحروب، كل معلومة قد تتحوَّل إلى رصاصة تصيب القلب مباشرة، وكل تفصيل قد يُحدِّد نتائج المعارك ويؤثر فيها إيجابيًا.
والأخطر أن تحديد الموقع – ببساطة – هو الخطوة الأولى نحو تحييده. أي منشأة نووية سِرِّية، بمجرَّد أن تُعرَف إحداثياتها، لم تعد سِرِّية. هذه هي المعادلة الجديدة.
المفارقة أنَّ أغلب شبكات الاتصال والبيانات العالمية اليوم تمرُّ عبر منصَّات أمريكية أو خاضعة لها، سواء الهواتف، أنظمة GPS، أو حتَّى التطبيقات "البريئة". وهذا يمنح واشنطن قدرة شبه مطلقة على رصد حركة الأفراد، الشركات، والحكومات.
الصين – الخصم التكنولوجي الأقوى – أَسَّست بدورها لنفسها نظامًا معلوماتيًا مُغلَقًا، يُقال إنه يوازي أو يتفوَّق على الأمريكي في بعض النواحي. لكن تظلُّ الشبكة الأمريكية أوسع، والأهم أنَّها الأكثر اندماجًا وتأثيرًا في العالم الغربي. وهنا، تبرز أهمية المعلومات الدقيقة التي قد تحسم معارك قبل أن تبدأ.
ما نراه اليوم هو تحوُّلُُ في ميزان القوة: من امتلاك السِّلاح إلى معرفة مكانه، من بناء الجدران إلى معرفة أين تكمن الثغرات. لقد تغيَّرت قواعد اللُّعبة. فمن يعرف كل شيء عن منشآتك، قد لا يحتاج إلى قصفها ليُرعِبك... يكفي أن يخبرك أنَّه يستطيع.
هذه ليست مجرَّد فضيحة تجارية أو صحفية، بل تجسيد حقيقي لحرب الظل بين القوى العظمى، حيث الكلمة والصورة والمعلومة باتت أدوات هجومية لا تَقِلُّ فتكًا عن القنابل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق