من هذا المنظور تستيقظ دول طالما تمايَلت بين واشنطن وبكين، فتجد نفسها اليوم تنجذب نحو الشرق، نحو الصين؛ كأنَّها تبحث عن مرسى تشدُّ إليه سفنها، بعدما ضاق بها المرسى الأخر. إنَّ الأمر ليس مجرَّد تحوُّل في الأولويات السياسية، بل هو قصَّة قلق وجدلية: أي طريق تختار الدولة حين تُمطرها العواصف من كل جانب؟
في ظل هذه الديناميكية، تتبدَّل الموازين. الحلفاء السابقون يشعرون بأنَّ الطمأنينة التي كانت تُوفِّرها العلاقات مع الولايات المتحدة تتآكل، والمنافسة تتبدَّى في علاقات دولية تُصارِع فيها النفوذ والصوت، ليس بالضرورة بفعل القوة العسكرية فحسب، بل عبر الثقافة، والاقتصاد، والبُنى التحتية، وحتّى الأسلوب في الحديث والسياسة.
إنَّها لحظة ليست بها أي ترتيبات جاهزة، ولا عقود موقَّعة تُرسي قاعدة ثابتة. إنَّما هي لحظة انتقالية تحاول الدول فيها تَلمُّس هوية بين الشرق والغرب، بين السيادة الذاتية وحزم العلاقات مع القوى الكبرى، بين مغريات القرب من النفوذ الاقتصادي الصيني، وبين الإرهاصات التي تحملها تلك العلاقات من تبعية أو استنزاف.
في هذا المشهد، تُصبح الصين ليس فقط لاعبًا موازِيا، بل بخطوات متأنّية ورؤية معمَّقة، حضنا يبحث عنه من يشعر بأن الحضن الأخر قد صار باهتًا أو مملوءًا بالشروط الصعبة. ومهما اختلفت طبيعة العلاقة — تعاون اقتصادي، تنافس تكنولوجي، أو تضامن سياسي — فإنَّ الرسالة واضحة: هناك جاذبية شرقية مهيبة بدأت تجتذب الدول غير المنحازة، ليس باعتبارها اختيارا تحلّ به المسائل فقط، بل كأنَّها عودة إلى مركز قد يُعيد رسم الخريطة العالمية من جديد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق