الإيطالية نيوز، الإثنين 8 سبتمبر 2025 – بعد أيام من قيام الصحف الإيطالية والدولية الرئيسية بنشر خبر التدخُّل في نظام GPS للطائرة التي كانت تقلُّ «أورسولا فون دير لاين» إلى صوفيا، متحدِّثة عن عملية تخريب قامت بها روسيا، جاء النفي من قبل السلطات البلغارية (الدولة التي هبطت فيها الطائرة) والتصحيح من قبل المفوضية الأوروبية، التي أوضحت أنها لم ”لم تقل أبدًا“ أن الأمر كان ”هجومًا موجَّهًا“. انتشرت القصة في وسائل الإعلام ووُصفت بأنَّها دليل آخر على رغبة الكرملين في زعزعة استقرار أوروبا وترهيب رئيسة المفوضية. لكن، كما سبق أن حلَّلنا، بدت الأخبار هشَّة منذ الساعات الأولى، حيث لم تكن هناك تحقيقات رسمية أو أدلَّة فنية تدعم فرضية التخريب. علاوة على ذلك، أوضحت "Flightradar24"، وهي منصة تراقب الرحلات الجوية المدنية والعسكرية في الوقت الفعلي، أن جهاز الإرسال والاستقبال الخاص بالطائرة كان يبثُّ دائمًا قيمة "NIC" جيِّدة، أي جودة ثابتة لإشارة GPS من الإقلاع حتّى الهبوط. بمعنى أخر، لم يحدث أي انقطاع من شأنه أن يُعرِّض الملاحة للخطر.
v
أعادت بلغاريا نفسها الأمور إلى نصابها أمس، بإصدار بيان رسمي أزال كل الشكوك: فقد أعلن رئيس الوزراء «روزن زيليازكوف» في البرلمان أن طائرة «فون دير لاين» لم تتعرض “”لأي تدخل أو اضطرابات مطولة»، وأضاف: «لا داعي للتحقيق في الموقف، لأن هذه الاضطرابات ليست تهديدات هجينة ولا تهديدات إلكترونية». كما نفى نائب رئيس الوزراء ووزير النقل، «غروزدان كارادجوف»، في مقابلة مع قناة bTV، أن تكون صوفيا قد أرسلت إلى بروكسل معلومات تشير إلى تورط روسي. وأوضح «كارادجوف» أن سلطات الطيران المدني أرسلت إلى "الوكالة الأوروبية لسلامة الطيران" (Easa) محضر الاتصال بين الطيار وبرج المراقبة، الذي يتحدث فقط عن ”مشاكل بسيطة“ في إشارة GPS، من دون أي إشارة إلى تدخلات روسية. وأوضح وزير الداخلية «دانيال ميتوف» أن "إدارة الجرائم الإلكترونية التابعة لدائرة مكافحة الجريمة المنظمة كُلفت بالتحقق مما إذا كان الأمر يتعلق بهجوم إلكتروني.
وأعقب نفي بلغاريا تصحيح من قبل المفوضية الأوروبية التي، بعد أن نفت "صوفيا" صحة ما نقلته، اضطرت إلى إعادة تقييم الحادث من خلال المتحدثة باسمها «أريانا بوديستا»: “لم نقل أبدًا أن التداخل في إشارة GPS الذي رصدته الطائرة التي كانت تقل الرئيسة أورسولا فون دير لاين في بلغاريا كان موجهًا ضدها بشكل صريح.” ومع ذلك، في مؤتمر صحفي، أكدت المتحدثة الرئيسية باسم المفوضية الأوروبية «باولا بينهو» التداخلات في نظام GPS وشرحت أن الطائرة هبطت بسلام، مما يؤكد ما كتبه سابقًا صحيفة "فاينانشال تايمز".
هذه الديناميكية ليست جديدة: في السنوات الأخيرة، غالبًا ما فضلت وسائل الإعلام الرئيسية بناء رواية مستقطبة، متضحية بالدقة الصحفية باسم السرد السياسي. الفكرة الأساسية هي أن موسكو يجب أن تُشار إليها على أنها المسؤولة بغض النظر عن أي شيء، حتى في حالة عدم وجود أدلة. يسلط هذا المقطع الضوء على مدى أهمية ديناميكية التواصل في كثير من الأحيان أكثر من الحقيقة الواقعية.
تأتي الاتهامات أولا، مع عناوين وتعليقات درامية؛ وبعد ذلك، عندما تنتشر الأخبار في جميع أنحاء العالم، تأتي التوضيحات - إن جاءت - ولكنها تحظى بقدر أقل من الظهور ونادراً ما يتم التأكيد عليها بنفس القوة.
في اللحظة التي يتم فيها تقديم حادثة ما على أنها ”عمل عدائي“ من جانب موسكو، فإنها تعزز إطارًا تفسيريًا راسخًا بالفعل: وهو أن روسيا تشكل تهديدًا دائمًا، قادرًا على التسلل إلى أي مكان، حتى إلى الأجواء الأوروبية. ثم يتراجع إلى الخلفية أن الخبر قد تبين أنه لا أساس له من الصحة. والنتيجة هي أن الصورة النمطية التي تظل عالقة في الأذهان هي: روسيا تساوي الخطر. ولا يقتصر هذا النمط على قضية رحلة «فون دير لاين». إنه نموذج سبق أن رأيناه في قصص أخرى، حيث يصبح كل حادث جزءًا من سردية تبني عدوًا مطلقًا، بينما يتم تهميش عدم وجود أدلة على ذلك باعتباره تفصيلًا ثانويًا. إنه علامة على صحافة تسير أسرع من الواقع، وتخاطر، في محاولتها لتعزيز السردية السياسية السائدة، بفقدان وظيفتها الأهم: سرد الحقائق، لا اختلاقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق