وتأتي هذه الخطوة على حافة الهاوية السياسية، حيث هدد الاشتراكيون، الذين يشكلون ميزان القوى في البرلمان، بسحب الثقة عن الحكومة في حال عدم تلبية هذا المطلب. واستجاب «ليكورنو» للإنذار، مجمدًا رفع سن التقاعد وتأجيل زيادة المساهمات.
تعدّ إصلاحات التقاعد، التي أُقرت في 2023 دون الخضوع لتصويت مباشر عبر الاستعانة بالمادة 49.3 من الدستور، من أبرز نقاط الخلاف السياسية في فرنسا. وتنص الإصلاحات على رفع سن التقاعد من 62 إلى 64 عامًا، وزيادة سنوات الاشتراك المطلوبة للحصول على المعاش الكامل.
EN DIRECT | Déclaration de politique générale du Premier ministre, Sébastien Lecornu, à l’Assemblée nationale. https://t.co/igbIx8qmbG
— Gouvernement (@gouvernementFR) October 14, 2025
وفي 14 أكتوبر، وخلال خطاب السياسة العامة أمام الجمعية الوطنية، أعلن رئيس الوزراء «سيباستيان ليكورنو» أنه سيقترح رسميًا على البرلمان تعليق الإصلاحات «حتى الانتخابات الرئاسية». وقد قوبلت هذه الخطوة بالتصفيق من بعض النواب الاشتراكيين، الذين وضعوا تعليق القانون شرطًا لعدم تقديم طلبات لسحب الثقة عن الحكومة.
وشدد «ليكورنو»، الذي يقوم بهذه الخطوة بتوجيه من الرئيس «ماكرون» لإعادة تشكيل الحكومة وطرح خطة مالية لفرنسا، على أن التعليق لا يمكن أن يكون رمزيًا فحسب، مؤكّدًا الحاجة إلى التوصل إلى حل جديد مشترك.
وتلقى القرار دعمًا من شخصيات معارضة للإصلاح، أبرزهم الوزيرة السابقة سيغولين رويال، التي وصفته بـ«الظالم»، وأعربت عن ترحيبها بالتجميد واعتبرته خطوة نحو «المصالحة الاجتماعية».
EN DIRECT | Déclaration de politique générale du Premier ministre, Sébastien Lecornu, au Sénat. https://t.co/zXHRGrzLH7
— Gouvernement (@gouvernementFR) October 15, 2025
خطوة ليكورنو تهدف لاحتواء الضغوط السياسية وسط جدل ضريبي محتمل
تأتي خطوة رئيس الوزراء «سيباستيان ليكورنو» في محاولة معلنة لتحييد الهجوم المشترك من اليسار الراديكالي (فرنسا التي لا تُقهر) واليمين المتطرف (التجمع الوطني)، وكلاهما كانا على استعداد لتقديم طلبات لسحب الثقة، ما يهدد بشكل مباشر مصير قصر «الإليزيه».
وتواصل «مارين لوبان»، التي يُظهر حزبها تصويتات متقدمة في حال إجراء انتخابات جديدة، الدعوة إلى العودة إلى صناديق الاقتراع. ومع ذلك، لا يمكن لأي طلب لسحب الثقة أن ينجح دون دعم الحزب الاشتراكي، الذي يبدو في الوقت الحالي مترددًا في اتخاذ هذه الخطوة.
وأشار أمين عام الحزب الاشتراكي، «أوليفييه فور»، صباح اليوم إلى أن نواب حزبه سيقدمون في إطار المناورة المالية تعديلًا لإدراج "ضريبة زوكمان"، المعروفة بضريبة “الأثرياء للغاية”.
لكن الهدنة قد تتحول إلى سلاح ذو حدين، إذ تنص الضريبة التي اقترحها الاقتصادي «غابرييل زوكمان» على فرض استثنائي على %1 من أغنى سكان العالم، بنسبة %1.3. وتشير التقديرات إلى أن هذه الضريبة قد تحقق لفرنسا إيرادات تتراوح بين 15 و25 مليار يورو لصالح الدولة.
تعليق إصلاح التقاعد بين المكاسب السياسية والتحديات الاقتصادية
من جهة، يعمل تعليق الإصلاح على تحييد الخصم السياسي الأكثر خطورة، لكنه من جهة أخرى قد يُفسر على أنه اعتراف بفشل القانون، أو تنازل يضعف مصداقية الحكومة نفسها. والخطر يكمن في أن يفسر الناخبون، عند التركيز على النقاط الحساسة مثل التقاعد والميزانية والسياسات الاجتماعية، هذه الخطوة كعلامة ضعف: ماكرون يتراجع بعد أن فرض القانون رغم الاحتجاجات الشعبية الحادة.
ومن الناحية الاقتصادية، يُقدّر أن للتعليق كلفة مالية تصل إلى 400 مليون يورو في 2026 و1.8 مليار يورو في 2027، وفقًا لمصادر فرنسية. وفي ظل مراقبة دقيقة للعجز العام الفرنسي ووجود قيود أوروبية، سيكون من الضروري إيجاد موارد بديلة لتعويض هذه الكلفة.
وفي البرلمان، وعد «ليكورنو» بعدم اللجوء إلى المادة 49.3 لتجاوز الإجراءات التشريعية، مؤكّدًا أن كل مقترح سيُعرض للنقاش والتصويت. وستكون هذه تجربة بقاء للحكومة: كل تعديل وكل تصويت قد يحمل عواقب حاسمة.
إصلاح التقاعد بين الاحتجاجات الماضية والضغوط السياسية الحالية
إصلاح التقاعد الذي يدعمه «ماكرون» ليس مصدر توتر جديد فحسب؛ فقد تسبب بالفعل في عام 2023 في أشهر من الاحتجاجات العنيفة، والإضرابات العامة، والصدامات في الشوارع. ففي مارس من ذلك العام، ومع اللجوء إلى المادة 49.3 من قبل «حكومة بورن»، احتل آلاف المتظاهرين ساحة «الكونكورد»، واستخدمت قوات الأمن الغاز المسيل للدموع، وسُجلت عشرات الاعتقالات والعديد من الإصابات. وفي مدن مثل «ليون» و«ديجون»، كانت موجة التحركات قوية ومستدامة، إذ اعتُبرت الإصلاحات ضربة للنظام الاجتماعي ومجازفة جيلية وصدامًا بين رؤى متباينة.
كان «ماكرون» آنذاك قد أظهر الوجه الصارم للتقني الأوروبي، مصممًا على مواصلة "تحديث" الدولة مهما كلفه الأمر من استقرار اجتماعي. واليوم، بعد عامين، يحاول ساكن قصر «الإليزيه» النجاة بنفس البرود المحسوب الذي جعل صلته بالواقع الفرنسي تبتعد أكثر فأكثر. فتعليق الإصلاح لا ينبع من حساسية متجددة تجاه المطالب الاجتماعية، بل من غريزة بحتة للبقاء السياسي؛ «ماكرون» لا يتنازل عن اقتناع، بل يتراجع لأنه محاصر.
يعلّق الإصلاح لكسب الوقت، وليس لتغيير المسار. وراء واجهة الهدنة المؤسسية، يختبئ حكومة منهكة، بلا إجماع شعبي، تحاول الصمود عبر ميزان دقيق من التسويات. ويصبح «ليكورنو» درعًا بشريًا لها، وقطعة يمكن التضحية بها في لعبة سياسية سابقة الكتابة، بينما يراقب «ماكرون» عن بعد ويقيس نتائج الاستطلاعات.
وفي الوقت ذاته، فرنسا الواقعية تعيش تعبًا متزايدًا: رواتب ثابتة، تزايد عدم الأمان الوظيفي، والاعتماد المتنامي على عقود مؤقتة والعمل العرضي، خصوصًا بين الشباب، في ظل انتشار واسع لعدم الاستقرار الاقتصادي والاجتماعي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق