وليس هذا ادِّعاءً من شخص عادي، بل من «إنكوروناتا بوتشا» (Incoronata Boccia)، رئيسة مكتب الإعلام في قناة Rai الحكومية، التي صرَّحت من دون خجل او بالاحرى كما يقول الإيطاليون بِ "فاتشا طوستا": “ينبغي علينا ترشيح حماس لجائزة الأوسكار لأفضل إخراج”، مضيفةً أنَّ “لا يوجد دليل واحد على إطلاق النار على المدنيين العُزَّل.” ووصفت ذلك بأنَّه «عار، عار، عار» واعتبرته انتحارًا للصحافة التي نقلت أخبارًا “ من دون أي تَحقُّق من المصادر.”ربما المصادر التي تقصدها يجسِّدها عنوان واحد لا ثاني والثالث له: القاتل المجرم.
وتعدُّ هذه التصريحات مجرَّد قمَّة جبل الجليد في خطاب «بوتشا» الذي يرفع سقف إنكار المجازر بحق الفلسطينيين. وفي الوقت نفسه، كما يوضح "الاتحاد النقابي لصحفيي راي" (Usigrai)، أمام هذه الأكاذيب الصريحة و«الاتِّهامات غير المبرَّرة للإعلام» من قبل صحفية تشغل منصِبًا رفيعًا في تلفزيون تابع للدولة الإيطالية، فإن «الشركة الحكومية تلتزم بالصمت».
وصدرت تصريحات «بوتشا» خلال مؤتمر عُقد في 7 أكتوبر، نظمته اتحاد الجاليات اليهودية الإيطالية. إذ قالت: “غالبًا ما تناول الحديث عن قسوة الجيش الإسرائيلي وبربريته، ومع ذلك لا يوجد دليل واحد على إطلاق النار على المدنيين العُزَّل. ومع ذلك، تم رواية هذه الوقائع ونقلها دون أي تحقق من المصادر. عار، عار، عار، أكررها ثلاث مرات.” وجاءت هذه التصريحات بجانب «ديفيد بارينزو» الذي بدا راضيًا.
وأضافت «بوتشا»: “يوجد ما يستحقُّ كتابة إدانة شاملة، ليس فقط لانتحار الغرب أو جزء منه، خصوصًا أوروبا، بل لانتحار الصحافة. أقترح أن تخرج من هذه المائدة المستديرة اليوم ترشيحات لـحماس: هل نُرشِّحها لجائزة الأوسكار لأفضل إخراج، ونحن الصحفيون قد خضعنا لذلك من دون أي روح نقدية؟.”
كما انتقدت «بوتشا» «الاستخدام الأيديولوجي لمصطلح الإبادة الجماعية»، متسائِلةً عن «الوجه الذي سيخرج به من يَستخدِم هذا المصطلح خلال إحياء ذكرى يوم الهولوكوست».
بعد عامين من الشهادات والتصريحات والتسجيلات الصوتية والصور والفيديوهات، تتجاوز تصريحات «بوتشا» نفسها بالنفي. يكفي الاستشهاد ببعض الأمثلة التي تثبت أن «الأدلّة» التي تقول رئيسة المكتب الإعلامي إنَّها غير موجودة، قد جرى التحقُّق منها، بل وأكَّدها الجيش الإسرائيلي نفسه:
-
«مجزرة الطحين» في 29 فبراير 2024، حيث أطلق الجيش الإسرائيلي النار على المدنيين الذين كانوا يصطفُّون للحصول على الخبز، وأقرَّ الجيش بمسؤوليته، واصفًا ما حدث بأنه «حادثة مروِّعة».
-
«مجزرة رفح» في 26 مايو 2024، حين قصفت الطائرات الإسرائيلية مخيمًا للاجئين، ما أسفر عن مقتل 40 شخصًا، معظمهم احترقوا أحياء، واعترف الجيش لاحقًا بأنَّها «حادثة عرضية» أيضًا.
علاوةً على ذلك، توجد أيضًا تصريحات منظَّمات إنسانية دولية تعمل في قطاع غزة، وتحقيقات مستقلَّة أجراها خبراء مثل المقرِّرة الخاصَّة للأمم المتحدة الإيطالية «فرانشيسكا ألبانيزي»، بالإضافة إلى العديد من الشهادات الأخرى. بمعنى أخر، فإنَّ ما تعتبره «بوتشا» «غير موثَّق» هو في الواقع موثَّق، وغالبًا من قبل الجانب الإسرائيلي نفسه.
وفيما يخصُّ مصطلح «الإبادة الجماعية»، فقد أوردت عدة تقارير من قبل «ألبانيزي»، كما أنَّ محكمة العدل الدولية أكَّدت على وجود أدلَّة كافية لدراسة هذه الاتِّهامات الموجَّهة لإسرائيل.
أثارت تصريحات «بوتشا» موجة من الغضب في صفوف المعارضة، التي طالبت بإقالتها، كما طالبت المقرِّرة الخاصَّة «فرانشيسكا ألبانيزي» بأن يحدُثَ «التحقيق في الدعاية الإنكارية ومعاقبة المسؤولين عنها».
وتجدر الإشارة إلى أنَّ «بوتشا» ليست صحفية عادية، فهي تشغل منصبًا إداريًا رفيعًا، وبموجب ذلك تُمثِّل وجهة نظر الشركة نفسها، وتُحدِّد وفق رؤيتها الطريقة التي يجب أن يُقدَّم بها الخدمة الإعلامية العامَّة.
لذلك، طالب "الاتحاد النقابي لصحفيي راي" (Usigrai)، أكبر نقابة في القناة، الإدارة العليا لـRai بالتوضيح حول ما حدث، قائلًا في بيان: “هل ما صرَّحت به مديرة مكتب الإعلام في Rai خلال مؤتمر 7 أكتوبر والذي انعقد أمس في "المجلس الوطني للاقتصاد والعمل" (CNEL) يمثل موقف الشركة؟”، مشدِّدًا على أن كلمات «بوتشا» هاجمت في الوقت نفسه صحفيي القناة. وعلى الرغم من المطالبات المتكرِّرة من "الاتحاد النقابي لصحفيي راي"، لم تصدر القيادة العليا في Rai أي بيان رسمي حول هذه القضية حتّى الآن.
وجاء أيضًا في البيان التنديدي لـ "الاتحاد النقابي لصحفيي راي" الإشارة إلى إزهاق أرواح الصحفيين العاملين في قطاع غزة برصاص الجيش الصهيوني: “اليوم، بينما نحتفل بتحرير الأسرى الإسرائيليين وبوقف إطلاق النار في غزة، لا يمكننا نسيان الثمن الباهظ الذي دفعه الإعلاميون بحقهم في الحق في نقل الأخبار، حيث قُتل المئات منهم لمُجرَّد محاولتهم توثيق ما حدث خلال العامين الماضيين، اللذين يبقيان فترة مأساوية للبشرية جمعاء.”
وللتذكير، ليست هذه المرة الأولى التي تجد فيها القناة أو صحفيوها أنفسهم في قلب الجدل بشأن الإبادة الجماعية للفلسطينيين. فقد حدث ذلك بالفعل في عام 2024 خلال «مهرجان سانريمو»، عندما جرى إسكات المغنيين «غالي» و «دارغن داميكو» بعد أن عَبَّرا عن دعمهما للشعب الفلسطيني.
اكتفى الفنانون بإطلاق نداء لوقف إطلاق النار ووقف الإبادة الجماعية، ما أثار غضب السفارة الإسرائيلية التي اتَّهمت المهرجان بتحويل المنصَّة إلى وسيلة لنشر «الكراهية والاستفزازات».
وعقب تصريحات السفارة، حاولت Rai تدارك الموقف، حيث قرأت مقدِّمة حفل ما بعد المهرجان «مارا فينيير» بيانًا صادرًا عن المدير التنفيذي «روبرتو سيرجو»، أبدى فيه تضامنه مع إسرائيل والأسرى الإسرائيليين، من دون أي ذكر للمدنيين الفلسطينيين الذين قُتلوا على يد الجيش الإسرائيلي.
بشكل عام، تأتي تصريحات «بوتشا» في سياق موجة من إنكار الإبادة الجماعية التي بدأت تتفشَّى أيضًا في إيطاليا، كما يتَّضح من حالات مثل Lava Café وGazawood. ويُذكَر أنَّ الحكومة الإسرائيلية استثمرت نحو 150 مليون دولار لتنفيذ حملات دعائية تهدف إلى تشكيل السَّرد العام للإبادة الجماعية لصالحها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق