لكن الواقع يشير إلى العكس: فمنذ عام 2023 شهدت البلاد ارتفاعًا ملحوظًا في العبء الضريبي، وهو اتِّجاه يتواصل مع الموازنة الجديدة التي تُبقي الضَّغط الضريبي عند أعلى مستوياته خلال السنوات العشر الماضية. وتشير التقديرات إلى أنَّ هذا الوضع لن يتحسَّن كثيرًا في العامين المُقبلين، ما يعني أنَّ إيطاليا ستَظلُّ تحت وطأة واحدة من أعلى نسب الضرائب
وإنَّ ارتفاع الضغط الضريبي في إيطاليا ليس نتيجة سياسات الحكومة الحالية وحدها، بل هو ظاهرة مزمنة تعود جذورها إلى عقود طويلة. فإيطاليا تُعدّ من الدول ذات العبء الضريبي الأعلى في أوروبا، ويُستخدَم هذا الإيراد أساسًا لتمويل نظامٍ اجتماعيٍّ سخي يشمل المعاشات التقاعدية والرِّعاية الصحية.
يُقاس الضغط الضريبي في إيطاليا عبر مجموع أنواع محدَّدة من الضرائب، تشمل الضرائب غير المباشرة مثل «ضريبة القيمة المضافة» (IVA) على الاستهلاك، والضرائب المباشرة مثل «ضريبة الدخل» (IRPEF)، إضافة إلى ضرائب رأس المال كضرائب الميراث، والمساهمات الاجتماعية التي تُموِّل نظام التقاعد وإجازات الوالدين.
ولا تُحتسَب ضمن الضغط الضريبي بعض الإيرادات الثانوية مثل ما يُعرف بـ«الإيرادات الأخرى» أو «الإيرادات الرأسمالية غير الضريبية». وعند جمع جميع هذه المكوِّنات، نحصل على قيمة الإيرادات الإجمالية، أي المبلغ الفعلي الذي تجبيه الدولة من الضرائب.
وباختصار، فإنَّ الضغط الضريبي هو المؤشِّر الرئيس لقياس مستوى الضرائب التي يمكن للحكومة التأثير عليها مباشرة — على سبيل المثال من خلال خفض ضريبة الدخل أو ضريبة القيمة المضافة — في حين أن الإيرادات الإجمالية تعطي صورة أشمل وأكثر واقعية للوضع المالي، لأنها تشمل أيضًا مصادر الدخل التي لا تقع ضمن السيطرة المباشرة للحكومة.
وتكون الإيرادات الإجمالية دائمًا أعلى من مستوى الضغط الضريبي، لكن المؤشِّرين يسيران عادة في الاتجاه نفسه. ويُقاس كلاهما عادة كنسبة من «الناتج المحلي الإجمالي» (GDP)، أي نسبة إلى حجم الاقتصاد الوطني.
أمَّا فيما يتعلَّق بالسلطة التنفيدية الحالية، فقد تسلَّمت حكومة «جورجا ميلوني» مهامها في أكتوبر 2022، ومنذ ذلك الحين — كما يُظهر الرَّسم البياني — ارتفعت الإيرادات الإجمالية بمقدار نقطة مئوية واحدة من الناتج المحلي الإجمالي، فيما زاد الضغط الضريبي بمقدار 1.3 نقطة. ووفقًا لقيم اليوم، يعني ذلك أن الإيرادات والضرائب أعلى بنحو 28 و22 مليار يورو على التوالي مقارنة بالفترة السابقة.
وفي الربع الثاني من هذا العام، وهو أحدث فصل تتوفَّر عنه البيانات، بلغ المؤشِّران أعلى مستوياتهما خلال العقد الأخير، حيث وصلت الإيرادات الإجمالية إلى %47.6 من الناتج المحلي الإجمالي، والضغط الضريبي إلى %42.8. وهي نسب قريبة من تلك المسجَّلة خلال حكومة «ماريو مونتي» عام 2011، وهي الحكومة التي تشكَّلت آنذاك لإصلاح المالية العامة وسط أزمة اقتصادية حادَّة، وأصبحت لاحقًا رمزًا لسياسات “التقشُّف” الأوروبية.
الإيرادات الضريبية والضغط الضريبي
متوسط متحرك لأربعة فصول، كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي
وكما يُظهر الرسم البياني، فإن الضغط الضريبي كان مرتفعًا أيضًا خلال الحكومة الثانية لِـ «جوزيبي كونتي»، إلَّا أنَّ تلك الفترة تأثَّرت بجائحة كوفيد-19 التي أربكت جميع المؤشِّرات الاقتصادية نتيجة الانكماش الحاد في الناتج المحلي الإجمالي.
ووفقًا لتوقُّعات حكومة «جورجا ميلوني»، من المقرَّر أن يصل الضغط الضريبي في عام 2025 إلى %42.8 من الناتج المحلي الإجمالي، مرتفعًا عن %42.5 المسجَّلة في عام 2024، وهو أعلى مستوى منذ عام 2015. أما في عام 2026، فَيُتَوقَّع مشروع قانون الموازنة أن يبقى المعدّل ثابتًا عند %42.8.
وبحسب تقديرات «مرصد الحسابات العامة الإيطالية»، فإنَّ الضغط الضريبي سيواصل الارتفاع الطفيف ليبلغ %42.9 في عام 2027، قبل أن يتراجع قليلًا إلى %42.7 في عام 2028. وتشير التوقُّعات إلى أنَّ الإيرادات الإجمالية ستتبع المسار نفسه تقريبًا، ما يعني أن نحو نصف الناتج الاقتصادي للبلاد يذهب إلى خزينة الدولة عبر الضرائب والمساهمات العامَّة.
الضغط الضريبي في إيطاليا
الضغط الضريبي السنوي كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي
(القيم الخاصة بالأعوام 2026 و2027 و2028 هي تقديرات متوقعة)
لكن، بغَضِّ النظر عن الطريقة المحاسبية، قد يتساءل البعض: كيف يمكن أن يرتفع الضغط الضريبي بهذا الشكل الكبير، بينما تؤكِّد الحكومة على أنَّها تخفّض الضرائب؟ الواقع أنّ الأرقام تُظهر أنَّ الإيطاليين لم يدفعوا منذ عشر سنوات ضرائب بهذا الحجم، ومع ذلك من الصحيح أيضًا أنَّ الحكومة اتًّخذت بعض الإجراءات لتخفيف العبء الضريبي.
لنبدأ بتلك الإجراءات.
في المقابل، هناك زيادات فعلية في الضرائب: فقد رفعت الحكومة الرُّسوم المفروضة على الوَقود، بعد سنوات من معارضتها لذلك، وتُخطِّط لزيادة جديدة العام المقبل؛ كما أعادت تعديل نظام الحوافز الضريبية بشكلٍ أضرَّ بأصحاب الدَّخل المرتفع؛ وتستعد لفرض ضرائب استثنائية على البنوك وشركات التأمين في السنة القادمة.
أما أبرز التدخُّلات الضريبية الإيجابية فكانت اثنين:
أولًا، جعلت الحكومة دائمًا ما يُعرف بـ«خفض العبء الضريبي على العمل» (cuneo fiscale)، وهو تخفيض على ضرائب الموظفين كان قد أُدخِل مؤقَّتًا في عهد «ماريو دراغي» للتخفيف من آثار ارتفاع تكاليف المعيشة. لكن الانتقال من النظام المؤقَّت إلى الدائم حدثَ بطريقة فوضوية، ما أدَّى منذ بداية العام إلى تراجع الخصم الضريبي لعدد من الفئات، وبالتالي انخفاض صافي رواتبهم الشهرية.
ثانيًا، خفضت الحكومة شرائح ضريبة الدخل (IRPEF):
فبعد أن كانت أربع شرائح في عام 2022، أصبحت ثلاثًا فقط، مع خفض بمقدار نقطتين مئويتين للشريحة الأولى التي تشمل الدخول تحت 28 ألف يورو سنويًا.
وتتضمَّن مسودة قانون الموازنة للسنة المقبلة خفضًا إضافيًا، إذ ستنخفض نسبة الضريبة على الشريحة الثانية (من 28 إلى 50 ألف يورو) من 35 إلى 33 في المئة. ورغم أن هاتين الخطوتين تبدوان واسعتي النطاق نظريًا، فإنَّهما لم تنجحا في تقليص العبء الضريبي العام — بل على العكس، استمر في الارتفاع.
![]() |
رئيسة مجلس الوزراء جورجيا ميلوني بين نائبيها ماتيو سالفيني وأنطونيو تاياني (تصوير: روبيرتو مونالدو / وكالة لابرِس) |
منذ تولّي حكومة «جورجيا ميلوني» السلطة، يدفع الإيطاليون فعليًّا ضرائب أعلى، بسبب آلية تُعرف باسم «الدّرنَجة الضريبية» (fiscal drag)، وهي ظاهرة تظهر في الأنظمة الضريبية التصاعدية عندما تكون نسبة التضخُّم مرتفعة — كما حدث في السنوات الأربع الماضية مع الارتفاع العام في الأسعار.
ويُعدُّ النظام الضريبي الإيطالي نظامًا تصاعديًا، أي إن من يكسب أكثر يدفع نسبة ضرائب أعلى، استنادًا إلى المبدأ الدستوري القائل بأن أصحاب الدخل الأعلى يجب أن يساهموا بنسبة أكبر في تمويل الدولة.
عندما ترتفع تكلفة المعيشة، ترتفع أيضًا الأجور في محاولة لمجاراة الأسعار. وهذا أمر طبيعي بل ضروري، لأن الرواتب يجب أن تزداد تدريجيًا لتواكب غلاء المعيشة. فمن يناير 2021 إلى يناير 2025 ارتفعت الأسعار في إيطاليا بنحو %16، بينما ارتفعت الأجور بنحو %8 فقط، أي بنصف النسبة تقريبًا — لكنَّها تبقى اتِّجاهًا تصاعديًا إيجابيًا.
تكمن المشكلة حين تحدث هذه الزيادات داخل نظامٍ تصاعدي لا يُعدّل حدوده الضريبية بما يتناسب مع ارتفاع الدخول: فغالبًا ما تتجاوز الرواتب الجديدة العتبات التي تخوّل الحصول على إعفاءات أو مكافآت ضريبية، أو تدخل في شريحة ضريبية أعلى تُفرض عليها نسب ضرائب أكبر (ولو على الجزء الإضافي فقط من الدخل).
وهذا بالضبط ما يُسمّى «الدّرنجة الضريبية»: ففي ظلّ التضخُّم، يتحوَّل مبدأ العدالة الضريبية إلى العكس، إذ يجد المواطن نفسه يدفع ضرائب أعلى من دون أن تتحسَّن قدرته الشرائية فعليًا. ولا يقتصر الأمر على ضريبة الدخل، بل يشمل أيضًا «ضريبة القيمة المضافة» (IVA) التي ترتفع تلقائيًا مع ارتفاع الأسعار.
ومن هنا جاء ارتفاع الإيرادات العامة والضغط الضريبي في عهد حكومة «ميلوني»: فقد استفادت الحكومة من زيادة استثنائية في العائدات الضريبية من دون فرض زيادات مباشرة أو غير شعبية في الضرائب. بل استخدمت هذه الموارد لترويج بعض التخفيضات الضريبية المحدودة، التي لم تُعوِّض فعليًا تأثير الدّرنجة الضريبية.
ووفقًا لتقدير موقع lavoce.info، بلغت الزيادة في الضرائب المحصَّلة بفعل الدّرنجة الضريبية وحدها نحو 17 مليار يورو في عام 2024.
أما «مكتب الموازنة البرلماني» الإيطالي (UPB) فيقدّر أن الإصلاحين الضريبيين الرئيسيين اللذين تبنَّتهما الحكومة لم يُعوِّضا هذا الأثر، بل زاداه سوءًا، إذ كلَّفا المواطنين نحو 300 مليون يورو إضافية سنويًا.
Allarme della Cgia di Mestre: pressione fiscale reale è al 48%! Oltre alla marea di tasse, i contribuenti subiscono anche il salasso degli aumenti di luce, acqua, gas, pedaggi autostradali, servizi postali, trasporti. Basta trattare gli italiani come bancomat! CHOC FISCALE SUBITO pic.twitter.com/DqVKtji30z
— Giorgia Meloni (@GiorgiaMeloni) July 6, 2019
لقد كان ذلك خيارًا سياسيًا مقصودًا من جانب الحكومة، التي قررت عدم “إعادة” العائدات الناتجة عن الدّرنجة الضريبية إلى النظام الاقتصادي — أي لم تقم، على سبيل المثال، بتعديل حدود الدخل التي تتيح الاستفادة من المكافآت أو الشرائح الضريبية (IRPEF) بما يتناسب مع ارتفاع الأسعار والأجور.
وبدلاً من ذلك، استخدمت الحكومة هذه الموارد الإضافية — التي بلغت مليارات اليورو — لتحسين أوضاع المالية العامة وضبط الحسابات الحكومية.
وتبرّر الحكومة هذا الوضع بالقول إن الضغط الضريبي ارتفع ببساطة لأن عدد العاملين في البلاد ازداد، وبالتالي ازداد عدد من يدفعون الضرائب.
وقد كرّرت رئيسة الوزراء «جورجا ميلوني» ووزير الاقتصاد «جانكارلو جورجيتّي» هذا التفسير في أكثر من مناسبة، لكن الاقتصاديين دحضوه تمامًا، مؤكِّدين أنَّ الزيادة في الإيرادات لا تعود إلى الزيادة في التوظيف، بل إلى آثار التضخُّم والدرنجة الضريبية التي رفعت العائدات من دون أن يتحسَّن الوضع المعيشي الحقيقي للمواطنين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق