الإيطالية نيوز، الإثنين 10 نوفمبر 2025 – قال المستشار الألماني «فريدريش ميرتس»: “نريد أن نجعل البوندسفير أقوى جيش تقليدي في الاتحاد الأوروبي، بما يليق بدولة بحجم ألمانيا وبمسؤولياتها.” بهذه الكلمات أعلن «ميرتس» التحوُّل العسكري الأبرز في سياسات برلين، في خطوة تهدف إلى بناء أقوى قوَّة مسلَّحة في القارة لمواجهة ما وصفه بـ«عصر جديد من التهديدات.
وبعد ما يقرب من ثمانية عقود على انتهاء الحرب العالمية الثانية، تطوي ألمانيا قيود الماضي وتستعد لعملية تسلُّح غير مسبوقة ترمي إلى إعادة تأكيد مكانتها الاستراتيجية في أوروبا. وفي السياق نفسه، حَذَّر وزير الدفاع «بوريس بيستريوس» قائلًا: “ليس من قبيل المبالغة القول إن أسلوب حياتنا مهدَّد بالخطر.”
في إطار ما يُعرَف بـ«الخطة التشغيلية لألمانيا»، تسعى القوات المسلحة الألمانية (البوندسفير) إلى رفع عدد أفرادها إلى نحو 460 ألف عنصر بحلول عام 2029، بينهم 80 ألف جندي في الخدمة الفعلية وقرابة 120 ألفًا من قوات الاحتياط، وذلك بهدف ضمان جاهزية قتالية عالية وقدرة على التعبئة السريعة عند الحاجة. ويترافق ذلك مع برنامج استثماري واسع النطاق يشمل مجالات التسليح واللوجستيات والتكنولوجيا، يهدف إلى إعادة الجيش الألماني إلى موقع الصدارة الأوروبية من حيث القدرات العملياتية.
وقال اللفتنانت جنرال «ألكسندر زولفرانك»، قائد القيادة العملياتية للقوات المسلحة الألمانية، إن “هذه ليست خطة حرب، بل خطَّة لمنع وقوع الحرب.”
وتندرج هذه المبادرة ضمن إطار مفهوم «Zeitenwende» (وتعني حرفيا «التحول التاريخي»)، وهو مصطلح استخدمه المستشار الألماني «أولاف شولتس» لأوَّل مرة في 27 فبراير 2022، لوصف التحوُّل الجذري في السياسة الألمانية عقب الغزو الروسي لأوكرانيا.
وقال زعيم المعارضة «فريدريش ميرتس» في خطابه أمام البرلمان الألماني (البوندستاغ): “إنَّ حريتنا وسلامنا وأمننا باتت مهدَّدة بجدية»، مؤكِّدًا أنَّ «زمن ردّ الفعل على الأزمات قد ولّى، وعلينا اليوم أن نكون مستعدِّين لمنعها قبل وقوعها.”
وعلى الصَّعيد الاستراتيجي، تتَّجه برلين لتصبح المركز العملياتي الرئيسي لحلف شمال الأطلسي (الناتو) في أوروبا، والضامن الأبرز لأمن القارَّة. وفي هذا السياق، جرى إطلاق برامج إنفاق جديدة مموَّلة من صندوق استثنائي بقيمة 100 مليار يورو أُنشِئ بعد عام 2022، لتأمين شراء مركبات مدرَّعة وأنظمة دفاع جوي وصواريخ بعيدة المدى ومقاتلات حديثة، بما يُعزِّز قدرات ألمانيا الدفاعية ودورها المحوري في منظومة الأمن الأوروبي.
في هذا الصدد، أفادت صحيفة «بوليتيكو»، استنادًا إلى وثائق حكومية ألمانية اطَّلعت عليها، بأنَّ برلين تستعد لتنفيذ خطَّة توسُّع عسكري بقيمة 377 مليار يورو، في أكبر برنامج من نوعه منذ عام 1945. وتتضمَّن الخطة شراء 561 نظامًا مضادًّا للطائرات من طراز “سكاي رينجر 30”، و14 بطارية دفاع جوي “IRIS-T SLM”، و396 صاروخاً من الطراز نفسه، إلى جانب 300 صاروخ “IRIS-T LFK”، و400 صاروخ كروز “توماهوك بلوك Vb”، إضافةً إلى ثلاث منصَّات إطلاق متنقِّلة من نوع “تايفون”.
وبحسب الخُطَّة، ستستضيف ألمانيا اعتبارًا من عام 2026 صواريخ “دارك إيغل” الفرط صوتية، القادرة على ضرب أهداف في وسط روسيا خلال سبع دقائق فقط، في خطوة تُعتبَر رمزًا لتوجه أوروبي نحو تعزيز الردع العسكري بصورة أكثر استقلالية عن الولايات المتحدة.
ويُشير النموذج القتالي الجديد لحلف شمال الأطلسي (الناتو) إلى إمكانية تعبئة ما يصل إلى 800 ألف جندي خلال 180 يومًا في حال الطوارئ، على أن تتحمَّل ألمانيا جزءًا أساسيًا من هذا الانتشار.
من جانبه، شدَّد وزير الدفاع الألماني «بوريس بيستوريوس» على أن «روسيا تستعدُّ لخوض حرب جديدة»، مؤكِّدًا أنَّ «على أوروبا أن تكون على أهبَّة الاستعداد». وفي السياق نفسه، صَعَّد اللفتنانت جنرال «ألكسندر زولفرانك» من لهجته، معربا عن قناعته بأنَّ الصراع مع روسيا أصبح أمرًا لا مفرَّ منه، وأنَّ «هجومًا واسع النطاق ضدَّ «الناتو» قد يصبح احتمالًا واقعيًا، وربَّما قريبًا».
وفي هذا الإطار، بدأت القوات المسلحة الألمانية (البوندسفير) تنفيذ إصلاحات داخلية تهدف إلى رفع كفاءة القيادات وتحسين منظومة الإمداد والتموين، التي طالما عُدت أحد أبرز مواطن الضعف في الجيش الألماني. ومع ذلك، ما تزال هناك عقبات بنيوي تحول دون تحقيق الأهداف المرسومة، بينها نقص المجنَّدين، وتهالك البنى التحتية، وبطء سلاسل التوريد التي تعيق سرعة الاستجابة العملياتية.
يُعيد الصعود العسكري الجديد لألمانيا إلى الأذهان مرحلة إعادة التسلُّح في ثلاثينيات القرن الماضي، التي مَهَّدت لعملية «بارباروسا» والهجوم النازي على الاتحاد السوفييتي، وهو تحوُّل لا يَمُرُّ من دون أن يُثير قلق الأوساط الأوروبية.
أمَّا في إيطاليا، اعتبر وزير الدفاع «غويدو كروزيتُّو»– خلال مقابلة في برنامج «5 دقائق» على قناة RAI 1 – أنَّ برلين تُمثِّل نموذجًا يُحتذَى به، داعيًا إلى إصلاح شامل للقوات المسلَّحة الإيطالية وزيادة عدد أفرادها بما لا يقلُّ عن 30 ألف جندي، مستشهِدًا بالأرقام الألمانية كمثال. وكما هو الحال في برلين، تسعى روما إلى إعادة صياغة استراتيجيتها الدفاعية بين ضغوط حلف شمال الأطلسي (الناتو) من جهة وقيود الموازنة من جهة أخرى.
وفي الوقت الذي تتسارع فيه وتيرة سباق التسلُّح في أوروبا، تتولّى ألمانيا قيادة مرحلة جديدة تبتعد فيها عن نهج الحذر الذي طبع سياستها الدفاعية منذ الحرب العالمية الثانية، لتُعيد إلى الواجهة منطق القوة والمكانة العسكرية.
وفي خضم هذا التحوُّل، يتردَّد صدى تحذير «كارل ماركس»في كتابه «الثامن عشر من برومير لويس بونابرت»، حين كتب أن «التاريخ يعيد نفسه مرَّتين: المرة الأولى كمأساة، والمرة الثانية كمهزلة». ففي عام 1941، قادت حملة غزو الاتحاد السوفييتي إلى دمار ألمانيا؛ أمَّا اليوم، فإن سباق التسلُّح المبرَّر بخطرٍ مصطنَع قد يدفع القارَّة الأوروبية العجوز مجدَّدًا نحو حافَّة الهاوية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق