وأوضح «جوفانباتيستا فاتسولاري»، مستشارها السياسي الأقرب ووكيل رئيس مجلس الوزراء، أن لا أحد داخل الحزب شكك يوماً في الولاء المؤسَّسي لرئيس الجمهورية «سيرجو ماتّاريلّا».
وأكد «فاتسولاري» على أنَّ طلب التوضيح الحاد وغير المعتاد الذي تقدم به زعيم كتلة الحزب في مجلس النواب، «غالياتسو بينيامي»، كان موجَّهًا حصرًا إلى مستشار «ماتّاريلّا» المتورِّط في الجدل، «فرانشيسكو سافيريو غاروفاني»، وليس إلى الرئيس نفسه.
خلفية تاريخية: علاقة "غير هادئة" بين الرئاسة واليمين المتطرف
تظل ملابسات القضية بحاجة إلى توضيح دقيق. ومع ذلك، من المؤكد أن العلاقة بين الرئيس «ماتّاريلّا» وحزب "إخوة إيطاليا" كانت دائماً أبعد ما تكون عن الهدوء والسكينة التي حاول «فاتسولاري« الإيحاء بها بالأمس.
في بعض النواحي، يعود انعدام الثقة المتبادل بين «ماتّاريلّا» واليمين المتطرف إلى زمن بعيد. بصفته ممثلاً للكاثوليكية اليسارية وقياديا في الحزب الديمقراطي المسيحي، كان «ماتّاريلّا»، منذ أوائل التسعينيات، من بين أشد المعارضين لتحالف الديمقراطيين المسيحيين مع الائتلاف الذي قاده «سيلفيو برلسكوني».
نشأ هذا الاقتناع لديه من اعتباره التحالف غير عملي مع حزب "التحالف الوطني" لما بعد الفاشية، بزعامة جيانفرانكو فيني، والذي كان وريثاً لـ "الحركة الاجتماعية الإيطالية" والسلف المباشر لحزب "إخوة إيطاليا" الحالي.
لا يزال النقاش التلفزيوني الذي جرى في اليوم التالي لإعلان «برلسكوني» دخول المعترك السياسي عام 1994 متاحاً للمشاهدة على منصة "راي بلاي": يُظهر النقاش مواجهة بين «ماتاريلا» و«فيني»، حيث كان تبادل الحديث بينهما حادا وساخرا للغاية.
لكنّ تدهور هذا العلاقة حدث في فترة أقرب، عندما تولّى «سيرجو ماتّاريلّا» للمرة الأولى منصب رئيس الجمهورية. ففي يناير 2015، حين انتخب البرلمان «ماتّاريلّا» رئيسًا للدولة بمبادرة من رئيس الوزراء آنذاك «ماتيو رينتسي»، عبّر حزب «إخوة إيطاليا» عن اعتراض شديد على هذا الاختيار. وكانت «جورجا ميلوني» قد طرحت بديلًا منه الصحفي «فيتوريو فِلتري» لرئاسة الجمهورية، وكتبت حينها تغريدة شديدة النقد: «ومن قبّعة "المُفكِّك" [وهي التسمية التي كانت تُطلق على «رينتسي»] يخرج «ماتّاريلّا»، الذي شغل مناصب وزارية في حكومات «أندريوتّي» و«غوريا وأمات». كل شيء يتغير كي لا يتغير شيء». وبين الردود على تلك التغريدة، برز تعليق ل«فااتسولاري» قال فيه: “أقول: من قبّعة المُفكِّك يخرج خردة”.
ولم يتوقف الأمر عند هذا الحد. فاستنادًا إلى حصول ماتّاريلا على 665 صوتًا، مازح «فاتسولاري» بالقول إن الرئيس المنتخب «توقّف على خطوة واحدة من رقم الوحش 666. المرشّح ليكون ضدّ المسيح». وبعد ثلاث سنوات، ازدادت حدة هجمات ميلوني على ماتّاريلا. ففي مايو 2018، رفض «ماتّاريلّا» تعيين باولو سافونا وزيرًا للاقتصاد في حكومة «جوزيبه كونتي» المدعومة من حزب «الرابطة» وحركة «خمس نجوم».
E dal cilindro del rottamatore esce #Mattarella, già ministro con Andreotti, Goria, Amato. Tutto cambia perché nulla cambi #feltripresidente
— Giorgia Meloni (@GiorgiaMeloni) January 29, 2015
واعتبرت ميلوني أن قرار رئيس الجمهورية يُظهر «بشكل درامي أنّ الرئيس ماتّاريلا واقع تحت تأثير مصالح الدول الأجنبية». وكانت «ميلوني» أول من دعا إلى إطلاق إجراءات العزل بحق «ماتّاريلّا»، في خطوة لافتة وجريئة على الأقل، سرعان ما انضمّت إليها حركة «خمس نجوم» بعد ساعات قليلة.
وعلى المنوال نفسه، نشر «فاتسولاري» تغريدة دعا فيها «ماتّاريلّا» إلى إعادة قراءة «المادة الأولى من الدستور، وسيدرك أنها مكتوبة بالإيطالية، لا بالألمانية ولا بالفرنسية»، في تلميح جديد إلى ما اعتبره خضوعًا مزعومًا لرئيس الجمهورية لقوى خارجية.
وقد اكتسبت هذه التغريدات أهمية خاصة في أكتوبر 2022، حين بدأت ميلوني، بعد فوزها في الانتخابات، بتشكيل فريقها الحكومي. إذ أعادت بعض الصحف، مثل «إل إسبريسو»، نشر تلك التصريحات بالتزامن مع تزايد الحديث عن احتمال تعيين «فاتسولاري» في منصب أبرز وكيل لرئاسة مجلس الوزراء. فسارع هو إلى إغلاق حسابه على «تويتر» لتجنّب انتشار التغريدات الأكثر إحراجًا، إلا أن لقطات الشاشة كانت قد بدأت فعليًا بالانتشار، ما ساهم في تفادي تعيينه في ذلك المنصب. وفي مرحلة لاحقة، رشّحته «ميلوني» ليكون أحد وكلائها، لكن بصلاحيات محدودة رسميًا، تقتصر على «تنفيذ البرنامج».
ولم تُخفِ «ميلوني» معارضتها التامَّة لإمكانية تجديد ولاية «ماتّاريلَّا» لولاية ثانية في عام 2022. وقالت في مجلس النواب، عندما بدأت تلك الفرضية تكتسب واقعية: «أيّ شخص أفضل منه». وعندما قرّر «ماتِّيو سالفيني»، زعيم اليمين الوسط آنذاك، بعد أيام مربِكة شهدت بعض أخطائه التكتيكية الفادحة، أن يمنح دعمه لإعادة انتخاب «ماتّاريلّا»، انتقدته «ميلوني« علنًا. وقالت إنَّها لا تريد تصديق ذلك، وامتنعت لأشهر عن لقاء حليفها في حزب «الرابطة».
ومع ذلك، لم يدفع كل ذلك ماتّاريلا إلى تعقيد مسار تشكيل حكومة ميلوني في أكتوبر من عام إعادة انتخابه. بل على العكس، فقد قدّم الرئيس، في ظل التوترات الحادة مع حزب «فورتسا إيطاليا» آنذاك، إسهامات عدّة لضمان ألا تؤدي المبادرات العدائية التي اتخذها سيلفيو برلوسكوني إلى إفشال عملية تشكيل الحكومة. ومنذ تلك المرحلة، نشأ بين ميلوني وماتّاريلا مسار من «الولاء المؤسسي الودّي»، عزّزته خصوصًا العلاقة بين الأمين العام للقصر الرئاسي أوغو زامبيتي ووكيل رئاسة مجلس الوزراء ألفريدو مانتوفانو، لكن هذا المسار بات أكثر تعقيدًا بمرور الوقت، لا سيما خلال عام 2025.
وفي أغسطس، سردت النشرة الإخبارية لمجلس النواب، التي يحرّرها صحفي «بوست» "فاليريو فالنتيني»، قائمة طويلة من الملفات—سواء في السياسة الدولية أو في بعض التشريعات المحدَّدة—التي شهدت توترات بين ميلوني و «ماتّاريلّا». بينها: الاستخدام المفرط لآلية المراسيم العاجلة، والتحالفات الدولية، وقضايا الأمن وإدارة النظام العام والسجون، وملف «ستارلينك» والعلاقات مع «إيلون ماسك»، إضافة إلى الجدل حول المراجعات التاريخية المتعلقة بـ«بيان فينتوتيني». وكتب «فالنتيني»: «هكذا يمكن فهم اختيار «ماتّاريلّا» الإشارة إلى أنه لا يحب كثيرًا من القوانين التي يوقّعها، لكنه يوقّعها لأن ذلك ما يفرضه دوره».
وبعض هذه الملفات كانت ترتبط مباشرة بالمستشار «غاروفاني». فهو الذي تابع عن كثب قضية «ستارلينك»—الاتفاق المحتمل بين «ماسك» وإيطاليا لاستخدام خدمات الاتصالات الفضائية التابعة له في المجالات العسكرية والمؤسَّساتية—وهو اتفاق لم يُستكمل في نهاية المطاف. وقد التقى «غاروفاني» بالمسؤولين الحكوميين المؤيدين للاتفاق، وكذلك ببعض وسطاء الشركة. وهو أيضًا من وضع حدًّا لضغوط أندريا سترابّا، ممثل ماسك في إيطاليا، الذي سعى للترويج للمشروع ومحاولة التواصل مباشرة مع رئيس الجمهورية. وكان «غاروفاني»، أخيرًا، من أوضح لعدد من أعضاء الحكومة والقيادات العسكرية التحفُّظات الكثيرة التي كانت لدى رئيس الدولة بشأن هذا الاتفاق المحتمل.
في فبراير 2022، عندما عَيّن «ماتّاريلَّا» «فرانشيسكو سافيريو غاروفاني» مستشارًا للشؤون المتعلِّقة بمجلس الدفاع الأعلى، كان «فاتسولاري» كعادته أوَّل المنتقدين. فكتب على منصة «إكس»: “تعود الحرب إلى أوروبا، وللمرَّة الأولى لن يكون لإيطاليا عسكريّ في منصب أمين مجلس الدفاع الأعلى، بل سياسي من الحزب الديمقراطي: «فرانشيسكو سافيريو غاروفاني». هذا قرار رئيس الجمهورية «ماتّاريلّا». المستفيد هو الحزب الديمقراطي، لا إيطاليا.”
ويُعدّ مجلس الدفاع الأعلى هيئة بالغة الحساسية؛ فهو الاجتماع الذي يترأسه رئيس الجمهورية دوريًا، ويُناقش فيه إلى جانب رئيس الوزراء والوزراء المعنيين أبرز الملفات العسكرية ومسائل الأمن القومي والاستخبارات. وهو اجتماع سرّي، لا يُسمح بحضوره إلَّا لقلَّة من الأشخاص، بينهم مستشار الرئيس المختص والأمين العام لِـ «بالاتسو كويرينالي».
وقد نُشرت مقالات صحيفة «لا فيريتا» التي كشفت تسريبات «غاروفاني» محور الجدل القائم، يوم الثلاثاء، غداة اجتماع لمجلس الدفاع الأعلى أكّد خلاله «ماتّاريلّا»، بين أمور أخرى، ضرورة مواصلة الدَّعم السياسي والعسكري لأوكرانيا.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق