ويُعد وجود الشركات الأميركية متعددة الجنسيات في إيطاليا واسعًا وراسخًا. فبحسب بيانات مستندة إلى معطيات «دائرة الإيرادات الداخلية الأميركية» (IRS)، تنشط 805 مجموعات خاضعة لسيطرة أميركية بشكل مستقر في إيطاليا، مع أنشطة تتجاوز، مقارنة بالسياق الأوروبي، مجالات الخدمات الرقمية والمالية. ويرتبط هذا الحضور أساسًا بالأنشطة الإنتاجية والصناعية، ما يجعل هذه الشركات عنصرًا هيكليًا في الاقتصاد الوطني.
وتتركز أنشطة هذه المجموعات في قطاعات رئيسية تشمل الصناعة التحويلية، والأدوية، وصناعة السيارات، والكيماويات، والطاقة، والتكنولوجيا، وهي قطاعات عالية الكثافة الرأسمالية ومرتفعة القيمة المضافة. وتوظف هذه الشركات نحو 227 ألف عامل في إيطاليا، ما يجعلها مساهمًا مهمًا في التوظيف المباشر وغير المباشر. كما يتمثل وجودها في مصانع إنتاجية، ومراكز أبحاث، ومقار تشغيلية، وشبكات من الموردين المحليين، ولا سيما في مناطق الشمال الصناعي، حيث تشكل الشركات التابعة للمجموعات الأميركية جزءًا أساسيًا من النسيج الاقتصادي المحلي.
ويعكس حجم الإيرادات نشاطًا اقتصاديًا حقيقيًا ومتجذرًا ومستمرًا، غير أن هذا الاتساع في النشاط الإنتاجي لا يقابله عبء ضريبي متناسب. إذ يبرز الفارق بين حجم الإيرادات والقيمة المضافة والضرائب المدفوعة عدمَ تطابق بين مواقع النشاط الاقتصادي ومواقع القاعدة الضريبية، وهي ظاهرة شائعة لدى الشركات متعددة الجنسيات، لكنها تكتسب في الحالة الإيطالية أهمية خاصة من حيث الحجم والتأثير.
وتظهر الفجوة الأكبر بين الإيرادات والضرائب في قطاع شركات التكنولوجيا الأميركية الكبرى. إذ تتصدر «أمازون» قائمة الشركات من حيث الإيرادات في إيطاليا، بأكثر من 3.2 مليارات يورو، لكنها لا تدفع سوى نحو 26 مليون يورو كضرائب، في حين تُعد «آي بي إم» أكبر مساهم ضريبي رغم تحقيقها إيرادات أقل. كما تُظهر شركتا «مايكروسوفت» و«ألفابت» فجوة ملحوظة بين حجم الأعمال والضرائب المدفوعة، وتتسع هذه الفجوة أكثر لدى شركات أخرى، مثل «ميتا» التي حققت إيرادات بنحو 400.7 مليون يورو مقابل ضرائب بقيمة 3.4 ملايين يورو، و«أوراكل» بإيرادات 192.3 مليون يورو وضرائب قدرها 2.15 مليون يورو، و«إيه دي بي» بإيرادات 77.5 مليون يورو وضرائب بلغت 564 ألف يورو، و«أدوبي» بإيرادات 17.1 مليون يورو وضرائب قدرها 753 ألف يورو. أما «أوبر»، فبلغت إيراداتها 5.2 ملايين يورو، ولم تتجاوز ضرائبها 174 ألف يورو. ويعكس هذا المشهد عبئًا ضريبيًا غير متناسب مع حجم الإيرادات، نتيجة اختلاف الهياكل القانونية والترتيبات الضريبية بين الشركات.
ولا تقتصر هذه الفجوة بين الإيرادات المتحققة في إيطاليا والضرائب المدفوعة على حالات فردية، بل تعكس آليات بنيوية في النظام الضريبي الدولي. إذ تعتمد الشركات متعددة الجنسيات على هياكل مؤسسية معقدة تتيح توزيع التكاليف والإيرادات والأرباح بين ولايات قضائية مختلفة. وفي هذا السياق، تؤدي أدوات مثل تسعير التحويلات، والإدارة المركزية لحقوق الملكية الفكرية، والتمويل داخل المجموعات، دورًا حاسمًا في تحديد موقع الأرباح الخاضعة للضريبة.
كما أن تركيز براءات الاختراع والعلامات التجارية في دول منخفضة الضرائب يدفع الشركات التابعة التشغيلية، مثل تلك الموجودة في إيطاليا، إلى دفع رسوم امتياز وإتاوات تقلص الأرباح الخاضعة للضريبة محليًا. وهي ممارسات تُعد في معظمها قانونية ومنظمة بموجب اتفاقيات منع الازدواج الضريبي، لكنها تؤدي عمليًا إلى تآكل القاعدة الضريبية في البلدان التي تتم فيها أنشطة الإنتاج.
وبحسب تقرير «حالة العدالة الضريبية 2025» الصادر عن «شبكة العدالة الضريبية»، أسهم هذا النظام في خسارة إيطاليا لإيرادات ضريبية تُقدّر بنحو 22 مليار يورو خلال ست سنوات، ما يؤكد أن المشكلة ليست ظرفية بل هيكلية. وعلى الرغم من إطلاق منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والاتحاد الأوروبي إصلاحات عدة في السنوات الأخيرة، من بينها الركيزة الثانية (Pillar Two) واعتماد حد أدنى عالمي للضريبة بنسبة 15 في المئة، فإن تنفيذ هذه الإجراءات لا يزال بطيئًا ومعقدًا، فيما تبقى نتائجها محدودة حتى الآن.
