الإثنين 15 ديسمبر 2025 – أسفرت نتائج الانتخابات التي جرت أمس، الأحد 14 ديسمبر، عن إغلاق الباب نهائيًا أمام إمكانية تحقُّق التحوُّل الاشتراكي الذي وعد به قبل خمس سنوات الرئيس المنتهية ولايته «غابرييل بوريك»، وكذلك أمام وصول أول رئيسة شيوعية في تاريخ البلاد إلى سُدَّة الحكم. فقد فاز في جولة الإعادة للانتخابات الرئاسية، وبفارق مريح، «خوسيه أنطونيو كاست»، البالغ من العمر 59 عامًا، وعضو الحزب الجمهوري التشيلي.
«كاست»، نجل لاجئ نازي استقرَّ في تشيلي بعد الحرب العالمية الثانية، وأحد المدافعين عن الديكتاتور «أوغستو بينوشيه»، بنى حملته السياسية بالكامل على خطاب «الأمن الاجتماعي» والدعم المطلق لقوات الشرطة والجيش. ومع وصوله إلى السلطة، تدخل تشيلي مرحلة هي الأشد يمينية منذ نهاية الديكتاتورية.
تبدو البلاد اليوم بعيدة كل البعد عن عام 2019، حين هزّ الغضب الشعبي تشيلي عبر موجة احتجاجات غير مسبوقة عُرفت باسم «الانفجار الاجتماعي». آنذاك، تمحورت الاحتجاجات حول حكومة الرئيس المحافظ والفاسد السابق «سيباستيان بينييرا»، الذي شغل في السابق منصب وزير العمل خلال حكم «بينوشيه». ولم تفلح سياسة القمع ولا التعديلات الحكومية المتتالية في احتواء الشارع، ليفضي ذلك، بعد أقل من عامين، إلى انتخاب «غابرييل بوريك» رئيسًا للبلاد.
«بوريك»، الشاب البالغ من العمر 32 عامًا والمنحدر من أقصى جنوب «باتاغونيا»، كان أحد رموز انتفاضات الطلبة عام 2011، وحاضرًا في الصفوف الأمامية خلال «الانفجار الاجتماعي». ومع وعوده بقيادة تشيلي نحو توجه اشتراكي، علَّق كثيرون آمالهم على مستقبل يسوده قدر أكبر من العدالة الاجتماعية، بعيدًا عن هيمنة المصالح الخاصَّة. غير أنَّ ما يصفه كثيرون بـ«خيانة بوريك» شكَّل، بحسب مراقبين، عاملًا حاسمًا في تمهيد الطريق لصعود اليمين المتطرِّف.
ففي حين فشل الرئيس المنتهية ولايته في تنفيذ عدد من الركائز الأساسية لبرنامجه، وعلى رأسها تعديل الدستور الموروث من حقبة «بينوشيه»، بفعل ضغوط قوية من رأس المال الخاص، ظلَّت إصلاحات أخرى معلَّقة، في مقابل تمرير قوانين ذات طابع يميني واضح، بينها إعادة إقرار «قانون ناين–ريتامال»، الذي يمنح قوات الشرطة هامشًا أوسع من الإفلات من العقاب.
أما الإنجازات المحدودة التي حقَّقتها حكومته، مثل خفض ساعات العمل ورفع الحد الأدنى للأجور، فلم تكن كافية لضمان فوز «جانيت خارّا»، وزيرة العمل السابقة في حكومة «بوريك»، بالأغلبية الانتخابية. كذلك، ورغم الوعود التي أطلقها «بوريك» بشأن حماية حقوق الشعوب الأصلية، تبدو هذه الفئات من أكثر المتضرِّرين من سياساته. ففي منطقة «الماكروزونا الجنوبية»، حيث يخوض «شعب المابوتشي» صراعًا مفتوحًا ضد الدولة والشركات التي تستولي على أراضيهم، جرى تمديد حالة الطوارئ التي أقرها «بينييرا» طوال فترة رئاسة «بوريك»، ما ينذر بمزيد من القمع في المرحلة المقبلة.
في المقابل، جعل «كاست» من «فزاعة انعدام الأمن» محور حملته الانتخابية، مستنِدًا إلى وعود صارمة بمكافحة الجريمة والهجرة غير النظامية، تشمل إغلاق الحدود، والترحيل الجماعي للمهاجرين غير النظاميين، وبناء سجون عالية الحراسة، واستخدام التكنولوجيا في ملاحقة الجريمة، إلى جانب دعم غير مشروط للشرطة والقوات المسلَّحة. وقد طغى هذا الخطاب على النقاش العام خلال الأسابيع الماضية، وغالبًا ما استُخدم لتفادي الأسئلة المحرجة المتعلقة بخطط التعافي الاقتصادي وإدارة المالية العامة.
كما تعهَّد «كاست» بمكافحة ما يصفه بـ«الإرهاب» في «الماكروزونا الجنوبية». وفي بلد تتحكَّم فيه قلَّة من المجموعات الاقتصادية الكبرى بمفاصل القرار، لم يتمكَّن برنامج «جانيت خارّا» من إعادة إشعال شرارة الأمل التي أطلقتها احتجاجات عام 2019. فبالرغم من أن حزبها لم يشارك في السباق الرئاسي منذ عهد «سلفادور أليندي»، إلَّا أنَّه أخفق في كسب ثقة شريحة واسعة من الناخبين.
وقد كان شعور الإحباط واضحًا في البلاد خلال الأسابيع، بل الأشهر، التي سبقت الانتخابات. إذ يرى قطاع كبير من السكان أن لون الراية التي يرفعها الرئيس لا يُحدِث فرقًا يُذكَر في بلد تتحكَّم فيه «الأوليغارشيات» بمسار السياسات العامَّة. وحتّى «خارّا» نفسها اضطرَّت، في محاولة لاستمالة المتردِّدين، إلى تبنِّي خطاب يُركِّز على الأمن، والرقابة التكنولوجية على الحدود، وضبط الهجرة، وهو خطاب يبتعد كثيرًا عن أي تصور كلاسيكي لبرنامج شيوعي.
