الإيطالية نيوز، الخميس 25 ديسمبر 2025 – تُعدّ شخصية «سانتا كلوز» اليوم واحدة من أكثر الصور شهرةً وانتشارًا على مستوى العالم. غير أن هويته لا تعود إلى خيال العصر الحديث، بل هي نتاج تراكم تاريخي معقّد تداخلت فيه عناصر دينية، وفولكلور أوروبي، وتحولات اجتماعية، إضافةً إلى القوة المتنامية للتسويق التجاري في العقود الأخيرة. إن تتبّع جذور هذه الشخصية يعني عبور قرون من التاريخ، وتفكيك عدد من المعتقدات الراسخة، كما يفتح الباب أمام تساؤلات أعمق حول الكيفية التي تحوّل بها رمز ديني وشعبي إلى إحدى أبرز الأيقونات العالمية للنزعة الاستهلاكية المفرطة.
القديس نيقولا وأصول الأسطورة
تعود البداية الموثّقة للأسطورة إلى القديس «نيقولا أسقف ميرا»، المنحدر من منطقة تقع في جنوب تركيا الحالية، والذي يُعد اليوم «شفيع» مدينة «باري» الإيطالية. كان «نيقولا» أسقفًا مسيحيًا وُلد في القرن الثالث للميلاد، واشتهر على وجه الخصوص بأعماله الخيرية تجاه الفقراء والأطفال. وقد ترسّخت مكانته في الوجدان الأوروبي خلال العصور الوسطى إلى حدّ أنها أفرزت تقاليد راسخة مرتبطة بتقديم الهدايا وحماية الفئات الأكثر هشاشة.
اعتُبر «نيقولا» قديسًا في حياته، ونُسبت إليه معجزات عديدة ومواقف نموذجية في مواجهة الظلم ونصرة المظلومين. وتُعدّ أشهر الروايات المنسوبة إليه تلك التي أسّست لممارسة العطاء الخفي، والمتمثلة في قصة إنقاذ ثلاث فتيات بفضل كرمه. ووفقًا للأسطورة، كان أبٌ معدم عاجزًا عن توفير المهور لبناته الثلاث، ما كان سيحكم عليهن بمصير مأساوي. ولتفادي إحراجه والحفاظ على سريته، قام «نيقولا»، على مدى ثلاث ليالٍ متتالية، بترك ثلاث أكياس من الذهب في منزل العائلة — وفي بعض الروايات ألقاها من النافذة، وفي أخرى عبر المدخنة — ما أتاح للفتيات الزواج بكرامة.
في هولندا تجسّدت هذه الشخصية في هيئة «سينتركلاس» (Sinterklaas)، الذي يُحتفى به في السادس من ديسمبر، حيث يدخل المنازل حاملًا الهدايا. ومن هذا التقليد تحديدًا، ومع موجات الهجرة الهولندية إلى الولايات المتحدة بين القرنين السابع عشر والتاسع عشر، تشكّل التحوّل اللغوي والثقافي الذي أفضى إلى ظهور اسم «سانتا كلوز» بصيغته المعروفة اليوم.
وتؤكد دراسات تاريخية ودينية عدة هذه السلالة بوصفها الجذر الموثّق الأبرز للأسطورة، من بينها أبحاث الباحث «جيرالد بولر» في كتابه Santa Claus: A Biography، والدراسات الأكاديمية حول الطابع التاريخي لشخصية «نيقولا» التي أجرتها كل من «جامعة كوينزلاند» و «جامعة وينشستر»، إلى جانب أعمال «توم إيه. جيرمان» في كتابه Santa Claus Worldwide.
إسهام الفولكلور الأوروبي
غير أن «سانتا كلوز» لا يمثّل إرثًا مسيحيًا خالصًا. ففي شمال أوروبا انتشرت شخصيات شتوية أسهمت في تشكيل مخيال موازٍ. ففي إنجلترا برزت شخصية «الأب كريسماس» (Father Christmas) بوصفها تجسيدًا لـ«روح عيد الميلاد»، وغالبًا ما صُوّرت بزيّ أخضر، في ارتباط رمزي بالطبيعة ودورة الفصول.
أما في الفضاءين الجرماني والإسكندنافي، فقد استمرّت أصداء روايات ما قبل المسيحية المرتبطة باحتفالات «يول» (Yule) وبشخصيات أسطورية مثل «أودين»، الذي كان يُتخيَّل شيخًا ملتحيًا جوّالًا يعبر سماء الشتاء. ولا يتعلق الأمر هنا باشتقاق مباشر بقدر ما هو تراكب رمزي اندمج تدريجيًا مع صورة القديس «نيقولا»، وأسهم عبر الزمن في تغذية الأسطورة وتوسيع أبعادها.
أحمر أم أخضر؟
تُعدّ مسألة لون زيّ سانتا كلوز من أكثر الروايات إثارةً للجدل. ووفقًا للأسطورة المعاصرة الشائعة، كان «بابا نويل» يرتدي في الأصل زيًّا أخضر قبل أن يتحوّل إلى الأحمر بفضل — أو بسبب — شركة «كوكاكولا». غير أن البحث التاريخي يرسم صورة مغايرة؛ إذ تُظهر أعمال مصوّرين من القرن التاسع عشر، من بينهم «توماس ناست»، «سانتا كلوز» بزيٍّ أحمر، إلى جانب تنويعات لونية أخرى. ومع مطلع القرن العشرين، كان اللون الأحمر قد أصبح واسع الانتشار بالفعل.
وعليه، فإن دور «كوكاكولا»، ولا سيما عبر الرسومات الشهيرة التي أنجزها «هادون ساندبلوم» في ثلاثينيات القرن الماضي، لم يكن ابتكاريًا بقدر ما كان توحيديًا؛ فالشركة لم تبتكر الصورة، بل قامت بتقنينها ونشرها عالميًا، محوّلة إياها إلى لغة بصرية كونية انسجمت تمامًا مع ألوان علامتها التجارية. ويُقرّ بذلك مؤرخون من أمثال «ستيفن نيسنباوم» في كتابه The Battle for Christmas، وكذلك الشركة نفسها.
شامانات وزلاجات وفِطر
في العقود الأخيرة، راجت أيضًا رواية بديلة جذّابة لكنها مثار جدل، تربط شخصية «سانتا كلوز» بممارسات شامانية في شمال شرق أوروبا، وبالاستخدام الطقسي لفطر «أمانيتا موسكاريا»، وبالدخول الشتوي عبر المداخن، فضلًا عن استخدام الزلاجات. وقد أسهمت دراسات الباحث «آر. غوردون واسون» وقراءات إثنو-أنثروبولوجية، مثل تلك التي قدّمها «جون إيه. راش»، في انتشار هذا التفسير.
غير أن عددًا كبيرًا من الباحثين — من بينهم دارسون من شعب السامي مثل «تيم فراندي»، وتحليلات نُشرت في مؤسسات إعلامية علمية كـ «ناشيونال جيوغرافيك» — يدعون إلى التعامل بحذر مع هذه الأطروحة، معتبرين أنها أقرب إلى فرضية إيحائية جذابة منها إلى حقيقة تاريخية موثقة.
وفقًا لهذا الطرح، لا تُعدّ أوجه التشابه مجرد مصادفات؛ إذ كان الشامانات الذين سكنوا المناطق الشاسعة الممتدة من جبال «الأورال» إلى «سيبيريا» يتنقّلون خلال الطقوس الشتوية على زلاجات تجرّها حيوانات الرنّة، وهي عنصر محوري أيضًا في الأيقونوغرافيا الحديثة ل«سانتا كلوز». وخلال فصل الشتاء، عندما كانت الأبواب تُغلق بفعل تراكم الثلوج، تُروى حكايات عن دخولهم المنازل عبر الأسطح أو المداخن، في مشهد يستحضر أحد أكثر العناصر السردية شهرة في أسطورة عيد الميلاد.
ويُضاف إلى ذلك الاستخدام الطقسي لفطر «أمانيتا موسكاريا» — الفطر الأحمر ذو النقاط البيضاء المرتبط بحالات الوعي المتغيّرة — والذي يُقارَن برمزية ألوان زيّ «سانتا كلوز» وبالبعد «السحري» لرحلته الليلية. وعند جمع هذه العناصر معًا، تتشكّل صورة سردية موحية تُبرز تشابهًا لافتًا بين الشامان القطبي و «بابا نويل» المعاصر: وسيط بين العوالم، قادر على اجتياز قسوة الشتاء وحمل شيء استثنائي إلى المجتمعات.
غير أن التحوّل الحاسم لم يكن أسطوريًا بقدر ما كان اجتماعيًا واقتصاديًا. فمنذ القرن التاسع عشر وحتى مطلع القرن العشرين، تحوّل «سانتا كلوز» إلى الرمز الأمثل لعيد الميلاد البرجوازي المنزلي، المرتبط بالأطفال والبيت، ثم — تدريجيًا — بالسوق. ويُظهر الباحث «ستيفن نيسنباوم»
كيف أُعيد تشكيل عيد الميلاد في ظل المجتمع الصناعي، وكيف غدا «سانتا كلوز» فاعلًا محوريًا في طقس بات ذا طابع تجاري عميق.
أما النتيجة، فهي الشخصية التي نعرفها اليوم: ليس مجرد رمز أسطوري للجود والعطاء، بل أيقونة عالمية للاستهلاك الاحتفالي، تجسيد مكثّف لقوة التسويق، والعاطفة، والتقاليد المُعاد تأويلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق