الجزائر على طريق السلام المرير عبر "اتفاقيات إيفيان" - الإيطالية نيوز

إعلان فوق المشاركات

الجزائر على طريق السلام المرير عبر "اتفاقيات إيفيان"


اتفاقيات إيفيان، الجزائر على طريق السلام المرير

من عام 1954 إلى عام 1962، كانت حرب الجزائر واحدةً من أهمِّ حروب تصفية الاستعمار في التاريخ. وفي الوقت نفسه، كانت الحربُ معقَّدةً للغاية. عادة، تُعرف الحرب فقط بأنَّها حرب أهلية بين فرنسا والأراضي الفرنسية (لماذا؟ لأن الجزائر لم تكن  تعتبر مستعمرةً رسميًا).


وعلى الرَّغم مرور أكثر من 40 عاما على الحرب، إلا أنها تركت ندبة في المجتمع الفرنسي. هذه الحقيقة لا جدال فيها، والدليل على ذلك عدد كبير من المذكرات والمجادلات والأبحاث حول الحرب التي تم إجراؤها الواحدة تلو الأخرى. إن النظر إلى حرب الجزائر هو أحد أهم المواضيع الأساسية لفهم الوضع الحالي في فرنسا.


تسبَّبت الحرب في صدمة للفرنسي، الذي يعتبر الجزائر مثل وطنه الأم. من أجل ذلك، أصبح الصوت الجديد المهيمن للحرب الذي يمزق مصالح المستوطنين الفرنسيين وأولئك الذين وُلدوا وترعرعوا في الجزائر مذهلًا تمامًا. انتشرت صور الحرب عبر وسائل الإعلام، ما جعل أفكار العالم الفكري تتغيَّر. أما على مستوى الحكومة، ساهمت الحرب كثيرًا في مراجعة الدستور الفرنسي بعد عودة «شارل ديغول».


 إنَّ تأثيرَ هذه الحرب لم يتوقف عند هذا الحد. لقد كانت حرب الجزائر حربًا دوليةً أكثر من كونها حربًا أهلية. وبالنسبة للبلدان الأوروبية الأخرى، فإنَّ حقيقة أن حرب إنهاء الاستعمار قد بدأت تُشكّل تهديدًا. وبعد "مؤتمر باندونج"، شجّعت هذه الحرب بشدة دول عدم الانحياز. علاوة على ذلك، وبما أنَّ الوقت كان في منتصف الحرب الباردة، فإنَّ الحرب، حيث كانت القوى الشيوعية قوية للغاية في الجزائر، كانت ضرورية لتكهُّن المستقبل بعواقبها على الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي.


ومن خلال تسليط الضوء على وجهات النظر المختلفة لهذه الحرب، يمكننا أن نفهمها بشكل أفضل، ويرتبط هذا الفهم بالعلاقة الفرنسية الجزائرية اليوم، حيث لا تزال هناك العديد من المشاكل. في الجزء الأول سنتناول احتمالات الحرب في فرنسا. وفي الجزء الثاني سننظر إلى الحرب في سياق دولي. وأخيرا، في الختام، سيتم دراسة الوضع الراهن في الجزائر.


حرب الجزائر

منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وضعت فرنسا الجزائر تحت سيطرتها كموروث تنازلت عنه الإمبراطورية العثمانية. في عام 1848، جرى تقسيم الجزائر إلى ثلاثة أقسام – المنطقة المحيطة بوهران، والمنطقة المحيطة بالجزائر العاصمة، وقسنطينة – والتي تعتبر جزءًا من العاصمة. لعبت الجزائر دورًا مهمًا كقاعدة سيطرة في شمال إفريقيا؛ في عام 1881، استعمرت فرنسا تونس والأراضي الواقعة غرب الجزائر، ثم استعمرت لاحقًا، في عام 1912، المغرب إلى الشرق.


في الجزائر، باستثناء المستوطنين من الدول الأوروبية، وبعض اليهود والمسلمين الذين حصلوا على الجنسية الفرنسية، تعرَّض السكان الأصليون للتمييز والاضطهاد. بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي "حركة تقرير المصير" القادمة من الدول الآسيوية، نمت الحركة ضد الحكم الفرنسي. أدَّى القمع الذي تعرَّضت له الحركة العرقية في تونس من قبل فرنسا في يناير 1952 إلى خفض سُمعة فرنسا، التي كانت لا تزال تتمسك بسياستها الاستعمارية. علاوة على ذلك، بموجب معاهدة جنيف في عام 1954، حصلت دول "الهند الصينية" الأربعة (بما في ذلك فيتنام الشمالية والجنوبية) رسميًا على استقلالها، وقد شجَّع هذا بشكل كبير الأشخاص الذين عاشوا في مستعمرات أو أقاليم ما وراء البحار في فرنسا.


وأخيراً، لقد حان الوقت. ففي عام 1954، أسَّس المقاتلون الجزائريون "جبهة التحرير الوطني"، وأصبح التمرُّد المسلَّح خطيرًا. وأمام هذا الحدث عزَّزت فرنسا قوَّاتها وتحوَّل التمرُّد إلى حرب. وفي عام 1955، اندلعت أعمال شغب عِرقية ضد فرنسا في الجزائر وتونس والمغرب. حصلت تونس والمغرب على استقلالهما، ولكن بالنسبة للجزائر، حيث عدد المستوطنين أكبر بكثير من البلدين الأخرين، كانت الحكومة الفرنسية مُنقسِمة بشأن التدابير المضادَّة. ذبح الجيش الفرنسي السُكَّان الَّذين اعتُبروا داعمين لجبهة التحرير الوطني، وعلى العكس من ذلك، كانت المقاهي ودور السينما التي تديرها فرنسا أهداف لمقاتلي جبهة التحرير الوطني: تفاقمت الحرب واتجهت بذلك إلى مستنقع الدم. في عام 1958، في أعقاب انقلاب "الضُبَّاط والمستوطنين الداعمين للجزائر الفرنسية"، وتحت تهديد غزو العاصمة، لم تتمكَّن الجمهورية الثانية من إيجاد حلٍّ فعّالٍ، ووجدت نفسها في حالة من الانهيار.


بناءً على طلبٍ من الحكومة، أصبح «شارل ديغول» وزيراً للوزراء، وبدأت الجمهورية الثانية. بسبب العجز المالي الناجم عن الحرب في الجزائر، شجَّع «ديغول» تقرير مصير الجزائريين في سبتمبر. في عام 1960، وافقت فرنسا على استقلال بلدان أفريقيا على التوالي، تحت اسم "العام الجديد لأفريقيا"، وأعلن «ديغول» بين أخرين عن "مشروع السلام في الجزائر". وقد أَلْهَم هذا الإعلان بعض الجيوش المقاتِلة في الجزائر والمستوطنين للرَّد، وأثار أعمال شغب ضد «ديغول» في نوفمبر من قبل المستوطنين في الجزائر. أنشأ الجنود والمستوطنون الموجودون في المكان "منظمة الجيش السري" (OAS)، وبدأوا ثورة ضد الجيش الفرنسي والضُبَّاط الفرنسيين.


 ومع تصاعد الإرهاب الَّذي تمارسه "منظمة الجيش السري" ضد الجيش الفرنسي و"جبهة التحرير الوطني" والمدنيين الجزائريين، ناشد «ديغول» "جبهة التحرير الوطني" لإجراء مفاوضات سلام. وفي مارس 1962، بموجب "اتفاقيات إيفيان"، حدثَ الاعتراف باستقلال الجزائر، وتوقَّف القتال بين الجيش الفرنسي و"جبهة التحرير الوطني". وفي يوليو، جرى اعتماد الاستقلال بالأغلبية المُطلَقة في تصويت في الجزائر. وانتُخب «أحمد بن بلة»، مُؤسِّس "جبهة التحرير الوطني"، رئيسََا أوَّل.


الرأي العام

وهُنا، ومن أجل دراسة ردود أفعال الفرنسيين بشكل عام على الحرب، سنتناول الاستطلاعات التي أجرتها الحكومة. عند سماع إعلان الحرب، أُصيب الرأي العام في فرنسا بالذُعر. وكما قال بيير منديس فرانس (Pierre Mendès France)، رئيس المجلس حينها: “إنَّ مقاطعات الجزائر جزءُُ من الجمهورية، وهي فرنسيةُُ منذ زمنٍ طويلٍ؛ لقد تمتَّع سكانها بالجنسية الفرنسية وممثَّلون في البرلمان، وقد قدَّموا ما يكفي من الأدلَّة على ارتباطهم بفرنسا، بحيث لا تسمح فرنسا بالتشكيك في وحدتها.


وفي استطلاعات الرأي اللَّاحقة، سُئل الفرنسيون عما إذا كان ينبغي للجزائر أن تحتفظ بوضعها كإقليم، أي ما إذا كان ينبغي أن تَظلَّ جزءًا لا يتجزَّأُ من فرنسا، أو إذا كان من الممكن أن يكون لها روابط وثيقة أقل مع العاصمة، أي الاستفادة من الحكم الذَّاتي الداخلي مع بقائها في الجمهورية. وهنا الإجابات:


وكما نرى فإن أنصار الجزائر الفرنسية لم يتمكنوا قط من تشكيل أغلبية الرأي العام الفرنسي. وحتى أبريل 1956، كانوا أكثر عددًا فقط من الفرنسيين الذين وافقوا على منح الجزائر قدرًا من الحكم الذاتي (Cazabon, 1991).


منذ انتخاب «ديغول» رئيسا في ديسمبر 1958، وثقت غالبية الشعب الفرنسي، من %68 إلى %51 حسب استطلاعات الرأي، بقُدرته على حل مشاكل الجزائر. بالنسبة لهم، لا ينبغي أن تظلَّ الجزائرٌ تحت سيادة فرنسا لأن ذلك يستلزم تكاليف باهظة بالنسبة للعاصمة. ومن ناحية أخرى، فإنَّ فكرة منح الاستقلال للجزائر عاجلاً أم آجلاً كانت تكتسب المزيد من الواقعية: كان %51 من الفرنسيين يعتقدون بهذه الطريقة في فبراير 1959. وبعد شهر، كان %71 من الفرنسيين يؤيِّدون المفاوضات مع "جبهة التحرير الوطنية" بهدف وقف إطلاق النار.


وفي مواجهة المعارضة لسياسته الجزائرية، ليس فقط في الجزائر ولكن أيضًا في فرنسا، قرر الجنرال «ديغول» إجراء استفتاءفي 8 يناير 1960، جرى طرح السؤال التالي: "هل توافق على مشروع القانون المقدَّم إلى الشعب الفرنسي من قبل رئيس الجمهورية، والمتعلِّق بتقرير مصير السُكَّان الجزائريين وتنظيم السُّلطات العامَّة في الجزائر، قبل تقرير المصير؟". ووافق الفرنسيون بأغلبية ساحقة على مشروع القانون بنسبة %75.26 من الأصوات المُدْلَى بها. في بداية أبريل 1961، بعد الاستفتاء وفي الوقت الذي جرى فيه إعداد "اتِّفاقيات إيفيان"، كان %57 من الفرنسيين يعتقدون أن الجزائر سوف تستقل تماما؛ لكن، بقيت مشكلة وحيدة يجب إيجاد حلي لها، وهي طبيعة العلاقات التي ينبغي إبقاؤها بين فرنسا والجزائر المستقلة.


بَدأَت عام 1962 بوادر العنف في الجزائر تلوح في الأفق. وعلى الرغم من أن النظام الفرنسي كان مناهضًا لـ "التنظيم السرِّي المسلَّح"، كانت الأشهر الأولى من العام مميتة بشكل خاص: 113 قتيلاً و237 جريحاً خلال الأسبوع الأول من يناير. انتشرت الإضرابات على نطاق واسع، وارتكب "التنظيم السرِّي المسلَّح" هجمات مذهلة مثل تلك التي وقعت في 21 يناير في "الأبيار" عندما وقع تدمير فيلا للخدمات الخاصة.


واستمرَّت الهجمات في الجزائر، حيث بلغ عددها 40 هجومًا يوميًا في شهر مارس. وفي هذا المناخ تجري مفاوضات "إيفيان" في الفترة من 7 إلى 18 مارس. إن التوقيع على إتفاقيات إيفيان سمح بالاعتراف باستقلال الجزائر المرتبط بوقف إطلاق النار، الذي وجب أن يدخل حيز التنفيذ في الـ 19 مارس، وحدد شروط إجراء استفتاء تقرير المصير الذي تقرر إجراؤه في اليوم الأول لشهر يوليو. 


وأظهر استطلاع للرأي أُجري في 27 مارس أن %80 من الفرنسيين كانوا راضين عن "اتِّفاقيات إيفيان". وفي استفتاء الثامن من إبريل، وافق الفرنسيون بأغلبيةٍ ساحقةٍ على هذه الاتفاقيات، بنسبة %90.7 من الأصوات.


ومع ذلك، %60 من الفرنسيين كانوا يعتقدون أنَّه لا تزال هناك مشاكل: إن مشكلة الجزائر لم تُحَل بشكل كامل نظرا لنشاط جماعية إرهابية تطلق على نفسها إسم إرهاب "التنيظم السري المسلح". لكن بعد ذلك جرى تفكيك "التنيظم السري المسلَّح"، وبدأ نزوح الفرنسيين من الجزائر. أظهر استطلاع للرأي أُجري في 27 يونيو أن %74 من الفرنسيين رَغبوا في أن تصبح الجزائر دولة مستقلة من خلال التعاون مع فرنسا بمُوجب الشروط التي حدَّدتها "اتفاقيات إيفيان"، مقابل %6 فقط عارضوا ذلك.


وعَلَى ضوءِ هذه المُعطيات يُمكننا القول إن المدافعين عن الجزائر الفرنسية لم يكونوا أبدًا أغلبية في فرنسا، على عكس ما يظنُّه كثير من النَّاس. ويمكن تفسير الأسباب التي دفعت أغلبية الشعب الفرنسي إلى قبول استقلال الجزائر بما يلي: لم يشارك عامة الناس قط في النقاش، أولاً حول الاستعمار، ثم حول إنهاء الاستعمار. بالإضافة إلى ذلك، طلب الفرنسيون من الجنرال ديغول أن يتولى مصير الجزائر، لأنهم أنفسهم لم يكن لديهم مشروع جماعي. ومرة أخرى، أعقبت حرب الهند الصينية (من 1946 إلى 1954) الحرب العالمية الثانية مباشرة، وخلَّفت 92 ألف قتيل على الجانب الفرنسي، وكانت غالبية الشعب الفرنسي تُريد السلام بأي ثمن (Cazabon, 1991).


الأقدام السوداء

فيما يتعلَّق بحرب الجزائر، عندما نقول "الفرنسيون"، فإنَّنا لا نعني فرنسيَيْ البرِّ الرئيسي فحسب، بل نعني أيضًا المهاجرين إلى الجزائر: المستوطنون.


بسبب الفرص التي توفرها الأراضي الجزائرية - والتي أشادت الدولة الفرنسية بمزاياها على نطاق واسع، والتي كانت حريصة على إنشاء مستعمرة استيطانية - استقرَّ هناك العديد من المستوطنين الأوروبيين منذ ثلاثينيات القرن التاسع عشر، وكان عددهم أكثر من مليونين في عام 1870. وفي نهاية القرن التاسع عشر، في عام 1896، تجاوز عدد الفرنسيين المولودين في الجزائر عدد المهاجرين الآخرين من الدول الأوروبية (Matsuura, 2006).


عِلاوة على ذلك، تغيُّر قانون الجنسية عام 1889، ولم تَعُد الجنسية تُمنَح حسب قانون الدم، بل حسب مكان الميلاد، وقانون التُربة. وفي الجزائر، تمكَّن الأجانب الذين وُلدوا هناك من الحصول على الجنسية الفرنسية، وأصبح العديد من المهاجرين من إسبانيا أو إيطاليا أو اليونان أو مالطا فرنسيين.


هؤلاء المستوطنون أطلقت عليهم السلطات الفرنسية لقب "الأقدام السوداء"، ولا يحملون الجنسيات الفرنسية فقط ولكن أيضًا الإسبانية والإيطالية والمالطية والسويسرية والألمانية، وهم يفرُّون من الفقر أو يأملون ببساطة في العثور على مكان يمكن فيه اكتساب الثروة السريعة وعيش حياة أفضل، فكان الاختيار هو اللجوء إلى هذه الدولة الواقعة في شمال إفريقيا بتشجيع من السلطات الفرنسية. وبفضل قانون عام 1889، حصل عدد متزايد من المهاجرين الأجانب وأطفالهم على الجنسية الفرنسية.


"الأقدام السوداء" هم من أصول اجتماعية متنوعة، ويشكلون في الجزائر مجتمعًا في حد ذاته يعيش عمومًا في أحياء أو حتى قرى منفصلة عن السُكَّان المحلِّيين. ونادرًا ما يختلطون مع من يُطلق عليهم "العرب" أو "المسلمون" أو "الوطنيون" الذين لا يتمتَّعون بنفس الحقوق التي يتمتَّعون بها. وحتى الزواج المختلط، الذي يُحرِّمه القرآن ويثير استياء الطرفين، نادرُُ للغاية.


 فقط بعد الحرب الجزائرية بدأ الفرنسيون في وصف الفرنسيين والأوروبيين في الجزائر بأنَّهم "الأقدام السوداء". يظلُّ أصل هذا التعبير غامضًا، ولا يوجد له تفسير مُرْضٍ تمامًا. ويرى البعض أنها تشير إلى أقدام المستوطنين السوداء التي تدوس الكروم، أو إلى أحذيتهم الداكنة التي تتناقض مع نِعال البربر الفاتحة، أو حتى إلى لون أقدام السكان الأصليين الذين يمشون حُفاة. ومهما كان التفسير الذي يفضله المرء، فإن انتشار عبارة "الأقدام السوداء"، بما تحمله من دلالة تحقيرية قوية، يُمثِّل نقطة تحوُّل بالنسبة لأولئك الذين يعينهم.


عاش المستوطنون الفرنسيون في الجزائر حياة سلمية إلى حد ما قبل بدء الصراع. لكنّ التمرد المسلَّح الذي يقوده مجاهدون في جبهة التحرير الوطني بدأ يغير ميزان القوى  تدريجيًا ، حيث أصبح السكان من أصل أوروبي تدريجيًا أشخاصًا غير مرغوب فيهم مع تفاقم الصراع وتراكم الضحايا في كل معسكر: إن التعايش بين الطائفتين على وشك الانهيار؛ لأنَّه لم يعد يُطاق.

==================================

 "اتفاقيات إيفيان"

 وضعت "اتفاقيات إيفيان"، التي جرى التوقيع عليها في 18 مارس 1962، ثمرة أشهر عديدة من المفاوضات السرية بين الحكومة الفرنسية ونشطاء الاستقلال الجزائريين، حدًّا لما يقرب من ثماني سنوات من الحرب. وعلى الرغم من إعلان وقف إطلاق النار، فإن الجزائر، التي كانت وقتئذ لا تزال تغرق في حرب أهلية، بدأت تشهد البوادر الأولى لاستقلالها في ظل العنف المحلي.


مارس 1962. بعد أشهر طويلة من المفاوضات السرية، أصبح ممثلو الحكومة الفرنسية و"الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية" (GPRA) على وشك التوصل إلى اتفاق يضع حدًا للصراع الذي احتدم منذ ما يقرب من ثماني سنوات في الجزائر . ويأمل الشعبان الفرنسي والجزائري أن يطوي هذا الفصل المؤلم الذي مزق فيه كل منهما الأخر، فصل اتسم بالوعود المنكوثة وعدم الفهم والغضب والخوف والعنف والفظائع (التعذيب والقتل وإطلاق النار والاعتداءات والمجازر) التي ارتكبها كلا المعسكرين.


 كانت حرب عصابات بسيطة عندما انطلقت في نوفمبر 1954، وتحوَّل التمرُّد المسلَّح الذي قادته "جبهة التحرير الوطني" ((FLN)) على مدى أشهر إلى حرب حقيقية، على الرَّغم من أننا لم نتحدَّث إلَّا بشكل متواضع عن "أحداث الجزائر". إن إعلان حالة الطوارئ في جميع أنحاء الجزائر (أغسطس 1955) ثم تعبئة الجيش (مارس 1956) وكذلك استخدام الوحدة يؤكِّدان على  أنَّ الأمرَ أكبر بكثير من مجرَّد عملية حفظ النظام. الجزائر الفرنسية، المُنقسِمة بشدَّة بين مُؤيِّدي الاستقلال ومُعارِضيه، تنزلق إلى الفوضى، وتنجذب رغمًا عنها إلى دوَّامةٍ من الأعمال الانتقامية التي يبدو أن لا شيء قادر على إيقافها.


وعلى الرَّغم من الانتصارات العسكرية، بما في ذلك النصر التكتيكي في معركة الجزائر (يناير-أكتوبر 1957)، إلَّا أَنَّ الوضعَ تفاقم. أعطت عودة الجنرال «ديغول» إلى السلطة في ربيع عام 1958 الأمل في النهضة، لكن بطل فرنسا الحرة سُرعان ما واجه حقيقة الوضع الذي لا ينفصم.

  اقترح «ديغول» مرارًا وتكرارًا على "الحكومة المؤقَّتة للجمهورية الجزائرية" التفاوض، لكنَّهم رفضوا طالما أنَّ مسألة الاستقلال لم تكن على جدول الأعمال. وفي 16 سبتمبر 1959، قدَّم «ديغول» تنازلاً مهماً وأعلن حق الجزائريين في تقرير المصير، وبالتَّالي فتح الطريق أمام مفاوضات جديدة.


ثمانية عشر شهراً من المفاوضات

عُقد الاجتماع الأول بين ممثلي الحكومة الفرنسية والحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية في "ميلون" (Melun) في يونيو 1960، من دون نجاح يذكر. استؤنفت المحادثات بشكل مؤلم خلال خريف عام 1960. أدى انتصار التصويت بـ "نعم" في الاستفتاء على تقرير المصير للجزائر في 8 يناير 1961 إلى طمأنة السلطات العامة: يبدو أن الاستقلال هو النتيجة الوحيدة الممكنة للصراع. ومع ذلك، لا تزال المفاوضات متوترة، حيث لا يزال المعسكران غير قادرين على الاتفاق على العديد من المواضيع.


وكان مناخ الحرب الأهلية السائد في الجزائر لا يسهل المفاوضات. أنشئت "المنظمة المسلحة السرية" (OAS) في نهاية يناير 1961 لمعارضة استقلال الجزائر، وكثفت هجماتها في الجزائر ثم في البر الرئيسي لفرنسا. كثفت المنظمة نشاطها بعد محاولة الانقلاب التي قام بها أربعة جنرالات فرنسيين، «راؤول سالان»، و«موريس شال»، و«إدموند جوهو»، و«أندريه زيلر»، ليلة 21 إلى 22 أبريل 1961. وأعضاؤها هم السبب وراء العديد من الهجمات التي خلفت أكثر من ألفي قتيل في الجزائر. بينما تجري المفاوضات بالقرب من "إيفيان"، "المنظمة المسلحة السرية" "البلاستيكية" للشركات الجزائرية ليلة 5 إلى 6 مارس كما قُتل العديد من المدنيين أثناء العمليات التي قامت بها "جبهة التحرير الوطني" (FLN) وكذلك أثناء المظاهرات التي قمعتها الشرطة الفرنسية، ولا سيما في باريس خلال "مذبحة" 17 أكتوبر 1961 و8 فبراير 1962 في "محطة مترو شارون".


التقى المفاوضون مرَّتين في "هوت سافوي" في ربيع وصيف عام 1961، أولاً في "إيفيان ليه باين" في الفترة من 20 مايو إلى 13 يونيو، ثم في "شاتو دو لوغرين" من 20 إلى 28 يوليو. وشهدت المناقشات تقدُّما على الرغم من نقاط الخلاف المهمَّة، بما في ذلك "قضية الصحراء". برئاسة «لويس جوكس» (Louis Joxe)، وزير الدولة للشؤون الجزائرية، و«كريم بلقاسم» (Krim Belkacem)، نائب رئيس الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية ورئيس جبهة التحرير الوطني، اجتمعت الوفود في منتصف فبراير 1962 في قلب قرية "لي روس" (Les Rousses) الصغيرة، في سرِّية تامة، من أجل إعداد الاتِّفاقيات التي طال انتظارهاوبدأت المحادثات رسميًا في "إيفيان" في 7 مارس، وأدَّت إلى توقيع اتِّفاق في 18 مارس، أنهى رسميًا ما لم يُطلق عليه بعد "حرب الجزائر".


 ويشكل وقف إطلاق النار والاستقلال البُنْدَين الأساسيين في الاتِّفاق المُبرَم بين الطرفين. وبالإضافة إلى وقف الأعمال العدائية بين القوات المسلَّحة الفرنسية والجزائرية، والذي يجب تطبيقه اعتبارًا من ظهر يوم 19 مارس، يَنُصُّ النَّصُ على إطلاق سراح السُّجناء بالإضافة إلى إجراء للعفو. كما يُحدِّد شروط تنظيم استفتاء تقرير المصير خلال ثلاثة إلى ستة أشهر. ويشترط في حال اختيار طريق الاستقلال، احترام وضع "الأقدام السوداء"، أي السُكَّان الأوروبيين في الجزائر، وضمان أمنهم. ومن الناحية العسكرية، تحتفظ فرنسا بقاعدة "المرسى الكبيرالعسكرية لمدة خمسة عشر عاما قابلة للتجديد، وبالترخيص باستخدام مراكز التجارب في الصحراء لمدة خمس سنوات، بما في ذلك قاعدة إطلاق الصواريخ في "حَماقير".


 السلام مصدر للعنف

وبعيدًا عَن وَضْعِ حَدٍّ للأعمال العدائية كما كان مُخَطَّطًا لها، تسبَّبت اتفاقيات "إيفيان" في زيادة أعمال العنف، بين مؤيِّدي الاستقلال وبين معارضيهم. نظرًا لعدم رضاها عن المُنعطَف الذي اتَّخذته المفاوضات، فإن "المنظمة السرية المسلحة" مستعدَّة لفعل أي شيء لمنع استقلال الجزائر. في 19 مارس، وهو اليوم الذي دخل فيه وقف إطلاق النار حَيِّز التنفيذ، أمر الجنرال الفرنسي «راؤول سالان»، رئيس "المنظمة المسلحة السرية" المطلوب منذ مشاركته في انقلاب الجنرالات، المقاتلين الفرنسيين "بمضايقة جميع مواقع العدو في المدن الكبرى في الجزائر. هذه هي بداية فترة جديدة من الاضطرابات التي ستنمو خلالها قائمة الضحايا الطويلة بالفعل.


 في مواجهة تزايد الهجمات التي تستهدف المدنيين ومسؤولي إنفاذ القانون، يستثمر الجيش الفرنسي في أحياء الجزائر العاصمة للحفاظ على النظام. في 23 مارس، هاجم رجال من "التنظيم السري المسلح" شاحنة تقل مجنَّدين من الوحدة قبل اللجوء إلى منطقة "باب الواد". وردَّ الجيش على الفور وحاصر المنطقة وشن الهجوم. وبمساعدة السُكَّان، تمكَّن أعضاء "المنظمة السرية المسلحة" من الفرار من الحي المُطوَّق، والذي ظل تحت حظر التجول لمدة أسبوعين. وبعد ثلاثة أيام، في 26 مارس، خرج أنصار الجزائر الفرنسية إلى الشوارع للتعبير عن غضبهم. وتحوَّلت المظاهرة إلى حمام دم عندما فتح الجنود النار على الحشد المتجمع في "شارع ديسلي" (rue d’Isly)، مما أسفر عن مقتل ما لا يقل عن خمسين شخصًا.


وبسبب تصرُّفات "المنظمة المسلحة السرية"، زادت أيضًا حدَّة الأعمال الانتقامية التي قامت بها "جبهة التحرير الوطني". وفي منتصف أبريل، شنَّت الجبهة حملة خطف وقتل استهدفت المدنيين الفرنسيين ومن يدعمهم، بقيادة الحَرْكيين السابقين. وتعرَّض نحو ستين ألف جزائري شاركوا كمساعدين في الجيش الفرنسي لمذبحة على يد القوات المسلحة لجبهة التحرير الوطني في الأشهر التي تلت وقف إطلاق النار، على الرَّغم من ضمان أمنهم المنصوص عليه في اتفاقيات "إيفيان".


وفي 8 أبريل 1962، جَرَتْ دعوةُ الشعب الفرنسي ليُقرِّر مصير الجزائر الفرنسية. وردًا على سؤال "هل توافقون على مشروع القانون المقدَّم للشعب الفرنسي من قبل رئيس الجمهورية والمتعلِّق بالاتفاقيات المزمَع إبرامها والإجراءات الواجب اتِّخاذها بشأن الجزائر؟" »، %90 من الناخبين أجابوا بالإيجاب. بعد أن سَئِموا الحرب وعدم الاستقرار السياسي والعنف، اختار الفرنسيون استقلال الجزائر. إنَّها بداية الهجرة الجماعية لمئات الآلاف من "الأقدام السوداء" الذين عاشَ مُعظمهم دائمًا في الجزائر. سوف يستغرق الأمر عدة أشهر أخرى حتى يعود الهدوء إلى البلاد، حيث إن إعلان الاستقلال في الخامس من يوليو لن يكون كافياً لتهدئة عقول الناس. وبعد مرور سِتِّين عامًا، لم يَحدُثْ إغلاق الفجوة بين المجتمعين الفرنسي والجزائري بشكل كامل بعد.


الجزء الأول: "أنا أفهمك"...

سمحت الأزمة التي بدأت في 13 مايو 1958 في الجزائر العاصمة للجنرال ديغول، الخارج عن السلطة منذ عام 1946، باستئناف رئاسة الحكومة.  تم تعيينه حديثًا كرئيس للمجلس، وحصل على الصلاحيات الكاملة لإصلاح المؤسسات واقتراح حل للصراع الجزائري. ولذلك فمن المنطقي أنه ذهب إلى الجزائر أيام 4 و5 و6 يونيو 1958.


  • منظمة مسلحة سرية (OAS)
  • الحكومة المؤقتة للجمهورية الجزائرية (GPRA)
  •   جبهة التحرير الوطني (FLN)

 الجزائر: تحت رمال الصحراء يوجد الماضي النووي الفرنسي الثَّقيل



في 13 فبراير 1960، أجرى الجيش الفرنسي أول تجربة نووية له في الصحراء الجزائرية. ورغم أن "قانون موران" لعام 2010 ينصُّ على تعويض ضحايا التجارب النووية الفرنسية، إلا أنَّ حالة جزائرية واحدة فقط تمكَّنت من الحصول على تعويض خلال 10 سنوات. نظرة إلى الوراء في حلقة تاريخية تربط بين مصير البلدين.


المطارق وأسلاك التمديد ومفاتيح الربط، وكذلك الطائرات والدبَّابات وأجزاء القوارب، كلها مدفونة في قبور عميقة في جنوب الجزائر، تحت رمال الصحراء. وإذا كان وجودها لأكثر من 63 عاما في وسط الصحراء يثير تساؤلات، فإن نشاطها الإشعاعي يثير قلقًا أكبر بكثير. وتشهد هذه البقايا المقسَّمة بين موقعي "عين عكر" و"رقّان"، على الوقت الذي كان فيه العالَم يشرع في السباق نحو الأسلحة النووية؛ حيث عمل الجيش الفرنسي، فيما كان لفترة، في إحدى مستعمراته الإفريقية.


وأوضح «جان ماري كولين» (Jean-Marie Collin)، الخبير والمتحدِّث بإسم "الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية" (ICAN France): "منذ عام 1945، سعت الدولة الفرنسية إلى بدء برنامج نووي عسكري واختبار أجهزتها الأولى التي ستشكل الترسانة النووية. وسيبحث الجيش الفرنسي عن مناطق في جميع أنحاء العالم وفي مستعمراته المختلفة حيث يمكنه إجراء هذه التجارب، وسيختار الجزائر."


إجراء 17 تجربة نووية بين عامي 1960 و1966 

 جرى تنفيذ 17 تجربة نووية بين عامي 1960 و1966 في موقعي "عين إيكر" و"رقّان"التجربة الأولى، والتي أُطلق عليها الإسم الرمزي، "الجربوع الأزرق"، أُجريت في 13 فبراير 1960  من طرف المجموعة العملياتية للتجارب النووية (GOEN)، وهي وحدة تابعة للقيادة المشتركة للأسلحة الخاصة الفرنسية. 


 أول تجربة نووية فرنسية

 يقول «باتريس بوفيريه» (Patrice Bouveret)، مدير "مرصد التسليح والمتحدث المشارك بإسم "الحملة الدولية لإلغاء الأسلحة النووية": "كانت هذه المناطق مأهولة بقرى كبيرة في ذلك الوقت، ولكن ذات عدد ضئيل للسكان، ما جعلها تصبح المكان المفضل لدى الدولة الفرنسية لإجراء الاختبارات النووية في تجاهل تام لتأثيراتها الخطيرة للغاية على البيئة يالبشر والحيوان.: "كان «ديغول» يأمل في عزل الصحراء عن الجزائر، لإبقائها ساحة اختبار".


أثناء الاختبار الثالث، "الجربوع الأحمر" (27 ديسمبر 1960)، عُلِم بوجود حيوانات حيَّة: "ألف جرذ وفأر وعدد قليل من الماعز"، جرى وضعها حول "نقطة الصفر" ليُرى "كيف تقاوم التأثيرات الإشعاعية للاختبار."


وفي الاختبار الرابع، "الجربوع الأخضر" (25 أبريل 1961)، حدث إجراء محاكاة للحرب النووية: "بعد الانفجار مباشرة، جرى تنظيم مناورات بالدبَّابات، ولكن أيضًا سيرًا على الأقدام بالقرب من نقطة الصفر [...] لاختبار معدَّات الحماية، ولكن أيضًا وقبل كل شيء لمعرفة ردود فعل القوَّات في جو شديد الإشعاع."


11 من أصل 17 تجربة النووية بعد الاستقلال

إذا كان وضع فرنسا كمستعمر يُفسِّر إمكانية حدوث مثل هذه التجارب في جنوب البلاد، فإنَّ استمرارها بعد الاستقلال أمرُُ محيِّرُُ.وقع إجراء غالبية التجارب النووية التي أجراها الجيش الفرنسي ( 11 من أصل 17) بعد عام 1962.


وقال «جان ماري كولين»: "جزء من اتفاقيات إيفيان لا يزال سرِّيًا. ويمكننا أن نتصوَّر أنَّ الدولة الفرنسية لم تترك الكثير من الخيارات للسلطات الجزائرية لمواصلة الاختبارات حتى عام 1966. واستمرت التجارب الأخرى على أنواع أخرى من الأسلحة البيولوجية والكيميائية حتَّى عام 1976."


10 مرَّات مما حدث في هيروشيما وناغازاكي

 يقول «باتريس بوفيريه»: “تحت الاختبار، جوي وجوي ولكن بالنسبة للغالبية العظمى من الطلقات النووية تحت الأرض والتي تتطلب حفر رواق في الجبل لتفجير القنبلة. كم من الوقت يبقى النشاط الإشعاعي في منطقة الاختبار؟ نحن لا نعرف شيئا. لكننا نعلم أن عمر هذه النفايات المشعَّة للغاية يبلغ 24000 عام.” وأضاف: “كانت القنابل التي اختبرناها أكبر بـ 10 إلى 20 مرة من قنبلة هيروشيما. وكانت السلطات الفرنسية على وعي كبير بالمشاكل التي يفرضها التلوث الناجم عن التجارب النووية. لذا كانت هناك رغبة في تنظيف الأرضية بمجرد الانتهاء من الاختبارولكن إذا قمنا بالتنظيف، فذلك يجعلنا نؤكد للعالم أن هناك مشكلة تلوث حقيقية.


في الأول من مايو عام 1962، لم يسير اختبار "بيريل تحت الأرض" كما هو مخطَّط له. يتم إطلاق جزء من "الغبار المشع"، الذي كان ينبغي احتواؤه في الجبل، ثم يطلق الانفجار النووي حِممًا شديدة الإشعاع من الجبل. في عام 2007، ذهب «باتريس بوفيريه» إلى الموقع، مشيراً إلى أن الكتلة لا تزال موجودة في الموقع، في الهواء الطلق، والتي يمكن لأي شخص الاقتراب منها. يتذكَّر الخبير قائلًا: “أخبرنا العلماء بعدم البقاء أكثر من 20 دقيقة في الموقع، وفي هذه الحالة تعرَّضنا لأقصى جُرعات مسموح بها لشخص يعمل في مجال الطاقة النووية لمدة عام.”


التداعيات البيئية والصحية على سكان المنطقة

إن التداعيات البيئية والصحية على سكان المنطقة معقَّدة للغاية قياسًا، حيث أن يوجد نقص واضح في الوثائق قبل وبعد الاختبارات. بدلا من ذلك، تكتفي المصالح المختصة بجمع المعلومات من السكان المتضررين، الذين يقدمون جميع المعلومات بشأن مشاكلهم الصحية المقلقة للغاية.


 ويشير «باتريس بوفيريه» إلى أن "لا الحكومة الفرنسية ولا الحكومة الجزائرية، لم تنظما حملة إعلامية أو أنشأت مراقبة طبية منتظمة للسكان، الأمر الذي كان من شأنه أن يتيح الحصول على بيانات دقيقة ومعرفة عواقب هذه الاختبارات": هذه ملاحظة مهمة تفسر الصعوبة التي يواجهها هؤلاء السكان اليوم في الحصول على تعويضات.


ضحية جزائرية جرى تعويضها خلال 10 سنوات

في 5 يناير 2010، أقرَّت فرنسا "قانون موران"، الذي ينصُّ الآن على "إجراء تعويض للأشخاص الذين يعانون من أمراض ناجمة عن التعرُّض للإشعاع الناتج عن التجارب النووية الفرنسية التي أُجريت في الصحراء الجزائرية و"بولينيزيا" الفرنسية بين عامي 1960 و1998". وإذا جرى منح تعويض لسكان "بولينيزيا الفرنسية" حيث أجرت فرنسا 193 تجربة نووية بعد الجزائر، فإن العويضات لضحايا الجزائر لاتزال تنتظر اتخاذ قرار شجاع وجريىء بشأنها.


من أين أتى الجزائريون؟



يقول أكرم بلقايد في خلاصة بحث أنجزه  أنه "إذا تمسكنا بالخطاب الرسمي، فإن الجزائريين عرب والجزائر جزء لا يتجزأ من العالم العربي، أو بالمعنى الأوسع، من الكل العربي الإسلامي الواسع. ويستحق هذا التعريف أن يوصف بأنه يرتكز بشكل رئيسي على اعتبارات سياسية مستوحاة من النضالات المناهضة للاستعمار ومن القومية العربية. لأنه، على المستوى الجيني، فإن الغالبية العظمى من الجزائريين هم قبل كل شيء من أصل أمازيغي، وارتباطهم بشبه الجزيرة العربية أو الشرق الأوسط هو قبل كل شيء لغوي وديني. 


وخلافًا للاعتقاد الشائع، كانت هذه المساهمة الديموغرافية القادمة من الشرق متواضعة. ووصل فرسان الإسلام وحدهم، بلا نساء ولا أطفال، واستقر فيها كثيرون منهم. علاوة على ذلك، كانت القبائل البربرية المسلمة هي التي قادت الغزو الإسلامي لشبه الجزيرة الأيبيرية. كان الغزو الوحيد واسع النطاق في المغرب العربي من حيث التركيبة السكانية هو غزو الاتحاد القبلي لبني هلال الذي جاء من حدود شبه الجزيرة العربية في القرن الحادي عشر. هذه القبائل التي قاتلها البربر، انتهى بها الأمر بالهزيمة وهبطت إلى حدود المغرب الغربي.


على المستوى العرقي، كانت الجزائر، مثل بقيَّة دول المغرب الأوسط، مأهولة في البداية من قبل السكان الأصليين البربر، الذين عانوا من العديد من الغزوات التي جلبت، في كل مرة، مساهمات ديموغرافية جديدة: الفينيقيون، اليونانيون، الرومان والوندال، البيزنطيون، العرب، الأتراك والفرنسيون الذين تعاقبوا على مَرِّ القرون، لكنَّ الفتح الإسلامي، منذ منتصف القرن السابع الميلادي، هو الذي شكَّلَ هويَّةَ السكَّان على أمدٍ دائمٍ.


تُظهِر المسوحات الجينية التي أُجريت خلال السنوات القليلة الماضية، والتي نشرت نتائجها الصحافة الجزائرية، أن 65 إلى %75 من السكان هم من البربر، حتى لو كانت نسبة المتحدِّثين باللغة البربرية أقل أهمية (30 إلى %40 من السكان). وهذا الاختلاف ليس مفاجئًا لأنَّه على مرِّ القرون، اعتمدت العديد من القبائل البربرية لغة القرآن. منذ ذلك الحين، فالازدواجية المعتادة التي تواجه العرب والبربر في الجزائر ليست ذات صلة. وبدلًا من ذلك، فمن الأنسب الحديث عن الناطقين باللغة البربرية والمتحدِّثين باللغة العربية. توجد طريقة أخرى لتعريف الجزائريين وهي التحدُّث عن العرب البربر.


ومع ذلك، في الواقع، لا تزال الهوية البربرية للجزائريين محل نقاش، حيث يجد العديد من المتحدِّثين باللغة العربية صعوبة في قبول هذا التراث. بعد أن أصبحت مقدَّسة ومشابهة للنضال ضد الاستعمار، فإنَّ الهوية العربية، التي لا يمكن إنكارها مرة أخرى ولو على المستوى الديني والثقافي فقط، تظهر كدغمائية أو عقيدة. ويُصرُّ أنصارها على الرابط العرقي الذي يوحِّدهم مع الشعوب العربية الأخرى بينما يطالب منتقدوها بالاعتراف بالطابع البربري للجزائر والجزائريين من دون تحيُّز ومن أي غموض. علاوة على ذلك، تشير الدراسات إلى أن 15 إلى %20 من السكان لديهم أصول شرق أوسطية، وأن بقية الجزائريين (%10) لديهم روابط وراثية مع أوروبا الغربية وتركيا.


نظرًا لتاريخها، تعد الجزائر موطنًا للعديد من المواقع الأثرية، والتي جرى تصنيف بعضها ضمن مواقع التراث العالمي من قبل اليونسكو. ومن أشهرها الآثار الرومانية لمدينة "تيبازة" الساحلية، على بعد 50 كيلومترا غرب الجزائر العاصمة. يعرف آلاف الأشخاص حول العالم الأسطر الأولى من مقالة "نوجيس" (Noces) للكاتب ألبير كامو (Albert Camus): “في الربيع، تسكن تيبازة الآلهة وتتحدث الآلهة في الشمس ورائحة الشيح، والبحر المصفَّح بالفضة، والسماء الزرقاء الفاتحة، والأطلال المغطَّاة بالزهور والضوء يغلي في أكوام الحجارة.»


وتشهد المواقع الأخرى، الأكبر حجمًا والمعالم الأثرية، على الماضي الروماني للجزائر. وهذا هو حال مدينتي "تيمقاد" و"جميلة"، الواقعتين في مرتفعات شمال شرق الجزائر. "تيمقاد"، أو "ثاموقادي"، كانت مستعمرة تبلغ مساحتها نحو 100 هكتار أسَّسها الإمبراطور تراجان (Trajan) في بداية القرن الثاني الميلادي.

إعلان اسفل المشاركات

كن على أتصال

أكثر من 600,000+ متابع على مواقع التواصل الإجتماعي كن على إطلاع دائم معهم

نموذج الاتصال

الاسم

بريد إلكتروني *

رسالة *

جرائم قتل النساء في إيطاليا