وأطلَّ البابا الجديد من شرفة "بركة المدينة والعالم" (Urbi et Orbi) ليُلقي تحيَّته الأولى على الحشود من أتباعه المتدفِّقة إلى ساحة القدِّيس بطرس، قائلاً: "السلام لكم جميعًا... السلام يجب أن يكون خاليًا من السِّلاح ومجرَّدًا من العنف. الكنيسةُ مدعوّةُُ لبناء الجسور وتعزيز الحوار."
دوافع الاختيار: توازن بين التيارات في فترة حرجة
يأتي انتخاب ليون الرابع عشر في لحظة دقيقة تعيشها الكنيسة والعالم على حدٍّ سواء. فقد واجهت الكنيسة في عهد البابا «فرانشيسكو» تحدِّيات داخلية كبيرة، منها الانقسامات بين التيارين التقدُّمي والمحافظ، والتوتُّرات بشأن قضايا اجتماعية شائكة مثل حقوق المثليين ودور المرأة في الكنيسة.
ويبدو أن اختيار الكاردينال «بريفوست» يمثل محاولة لتحقيق توازن بين الجناحين المحافظ والتقدمي داخل المؤسَّسة الكنسية، فهو شخصية تتمتَّع بخلفية تقليدية في المواقف العقائدية، لكنَّه في الوقت نفسه لا يُعرَف بتبنِّيه مواقف صدامية. وقد تجنَّب حتَّى الآن التصريحات المثيرة بشأن القضايا الشائكة، مثل الصراع في غزة، مما جعله خيارًا وسطًا لكرادلة أرادوا تجاوز الانقسامات دون التصعيد.
خلفية البابا الجديد
ولد «روبرت فرانسيس بريفوست» عام 1955 في مدينة "شيكاغو" الأمريكية. ينتمي إلى رهبنة القديس أوغسطينوس، وقد خدم طويلًا كمُبشِّر في أمريكا اللاتينية، بالأخص في "بيرو". نال رتبة الكاردينالية من البابا «فرانشيسكو» عام 2023. ويُعدُّ واحدًا من الكنسيين الذين امتزجت تجربتهم الروحية بالعالم الميداني، حيث عايش تحدِّيات المجتمعات المحلية في الجنوب العالمي.
واختار لنفسه إسم «ليون الرابع عشر»، وهو إسم يُعيد إلى الأذهان البابا «ليون الثالث عشر» (1810–1903)، صاحب الرِّسالة العامَّة الشَّهيرة "Rerum Novarum"، التي أرست أسس العدالة الاجتماعية في العقيدة الكاثوليكية. ويبدو أنَّ في هذا الاختيار الرمزي رغبة في تعزيز خطاب اجتماعي-أخلاقي للكنيسة، من دون الانجرار إلى جدل سياسي مباشر.
مواقف مثيرة للجدل
رغم كونه شخصية مُتَّزنة في خطابها العام، عُرف عن البابا الجديد تبنِّيه مواقف محافظة تقليدية في عدد من القضايا الاجتماعية. فقد انتقد علنًا ما وصفه بـ"تطبيع نمط الحياة المثلية"، وعارض ما يُعرف بـ"العائلات البديلة"، كما عبَّر عن رفضه لإدخال مفاهيم "النوع الاجتماعي" في المناهج الدراسية، خصوصًا خلال خدمته في "بيرو".
كذلك، أُثيرت انتقادات في مِلفَّيْن قضائييْن يتعلَّقان بانتهاكات جنسية من قبل رجال دين في كل من "بيرو" و"الولايات المتحدة"، حيث اتُهم «بريفوست» بعدم التفاعل بالشكل الكافي مع الاتِّهامات أو تعطيل الإجراءات التأديبية في بعض الحالات.
تحديات دولية في الأفق
انتخاب بابا أمريكي يُعتبَر خرقًا تقليديًا كبيرًا في توجُّهات الكرسي الرسولي، الذي دأب على تفادي تعيين حبر أعظم من دول كبرى لتجنُّب شبهة الخضوع لنفوذها السياسي. ومع ذلك، فإنَّ التغيرات الجيوسياسية العالمية، وتراجع ثقة الجماهير في المؤسَّسات، رُبَّما دفعت المجمع إلى تبنّي خيار مختلف يحمل رمزية جديدة.
ومع وجود خلفية أمريكية للبابا الجديد، يترقَّب المراقبون علاقته المرتقبة مع واشنطن، بالأخص في ظل عودة «دونالد ترامب» إلى السلطة. وقد وجّه «ترامب» بالفعل أوَّل تهنئة رسمية قائلاً:
"مبروك للكاردينال روبرت فرانسيس بريفوست. إنه لشرف عظيم أن يكون أول بابا أمريكي."
وكان «ترامب» قد أبدى تأييدًا سابقًا لمرشح أخر من بلاده، الكاردينال «تيموثي مايكل دولان»، لكن اختيار المجمع وقع على «بريفوست»، في إشارة إلى تفضيل شخصية أقل حدَّة وأكثر انضباطًا في التعاطي مع الملفَّات الدَّولية.