الإيطالية نيوز، السبت 14 يونيو 2025 – الشرق الأوسط لا يزال أحد أكثر المناطق حساسية في العالم فيما يتعلَّق بالانتشار النووي. وبينما تواصل إيران تطوير برنامجها النووي وسط اتِّهامات غربية، تواصل إسرائيل اتِّباع سياسة الغموض النووي، ما يعُمِّق حالة الترقُّب والقلق الإقليمي والدولي.
فمُنذ عقود، تُتَّهم إسرائيل بامتلاك ترسانة نووية غير معلَنة، وسط تقديرات تشير إلى امتلاكها عشرات الرؤوس النووية. إلَّا أنَّ "تل أبيب" لم تُقرّ رسميًا حتّى اليوم بامتلاكها للسلاح النووي، ملتزمةً بسياسة "الغموض البَنَّاء" التي تتيح لها الردع من دون التورُّط في التزامات دولية قد تفرضها معاهدات نزع السلاح النووي.
في المقابل، بدأت إيران برنامجها النووي في سبعينيات القرن الماضي لأغراض سلمية بحسب تصريحاتها، غير أنَّ المجتمع الدولي، وبالأخص الولايات المتحدة وإسرائيل، لطالما عبّر عن قلقه من إمكانية استخدام هذا البرنامج لتطوير أسلحة نووية، خاصة بعد انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي عام 2018.
وتسارعت وتيرة التطوُّرات منذ ذلك الحين، مع تقارير متكرِّرة من الوكالة الدولية للطاقة الذرية تشير إلى ارتفاع مستويات تخصيب اليورانيوم في إيران بما يقترب من مستوى الاستخدام العسكري.
هذه التقارير أدَّت إلى اتخاذ مواقف إقليمية ودولية بحق طهران، وأججت مخاوف السرطان الإقليمي الذي زرعته بريطانيا وفرنسا بتنسيق مع الولايات المتحدة في المنطقة بواسطة اتفاقيات "سايكس بيكو". هنا تعارض إسرائيل بشدَّة أي تقدُّم نووي إيراني، وقد لمَّحت في أكثر من مناسبة إلى إمكانية تنفيذ عمليات عسكرية استباقية لمنع طهران من الوصول إلى القنبلة النووية. من جهتها، تحاول الولايات المتحدة، ومعها الدول الأوروبية، إعادة إحياء الاتفاق النووي أو فرض قيود صارمة تمنع تحوُّل إيران إلى دولة نووية على غرار باكستان الذكية.
في المقابل، ترفض إيران الاتهامات، وتؤكِّد على أنَّ برنامجها ذو طبيعة سلمية بالكامل، مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على إسرائيل للكشف عن قدراتها النووية، والانضمام إلى معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية (NPT)، التي لم توقِّعها إسرائيل حتَّى اليوم. هذه الأخيرة، مع خرقها لجميع القواعد المنظمة للمجتمع الدولي تتمادى في إشعال فتيل الحروب بذريعة الهجوم الاستباقي للحفاظ على وجودها. آخر هذه الاعتداء ات السافرة كانت ضحيتها إيران، البعبع الكرتوني.
لم يكن أحد يصدق إشاعات بشأن احتمال وقوع اعتداء حربي على إيران، بل ذهب البعض إلى اعتبار ذلك مسرحية هزليه لصرف النظر عما يقع من إبادة متواصلة لشعب قطاع غزة ونهب أراضيهم مع قوة السلاح وبطش الجرافات والصمت العار للمجتمع العربي عربا وعلما. ولم يكن احد يتوقَّع أن تصبح العاصمة الإيرانية طهران، ذات التحصينات والرمزية السياسية، مسرحًا لضربات عسكرية بهذا الحجم والدقة. سلسلة من الغارات الإسرائيلية، وفق ما أكدته وسائل إعلام عالمية وإقليمية، استهدفت أهم القادة العسكريين الإيرانيين، من رأس الحرس الثوري إلى كبار مسؤولي الملف النووي. السؤال الذي يتردَّد اليوم: هل دخلنا فعلًا في مرحلة اللَّاعودة؟ وهل نحن أمام بداية حرب عالمية ثالثة، تكون إيران وإسرائيل طرفيها المباشرين؟
وفقًا للتقارير، وقع اغتيال اللواء «حسين سلامي»، القائد العام للحرس الثوري الإيراني، واللواء «محمد باقري»، رئيس هيئة الأركان العامة للقوات المسلحة، بالإضافة إلى اللواء «غلام علي رشيد»، نائب قائد القوات المسلحة. الضربات لم تكتفِ بالقادة العسكريين فقط، بل امتدَّت إلى العلماء النوويين البارزين مثل «فريدون عباسي» و«محمد مهدي تهرانشي»، واستهدفت مقرات ومراكز أبحاث ومنشآت في عمق إيران.
المثير في الأمر أن القادة المستهدفين جرى القضاء عليهم داخل شققهم السَّكنية، لا في ساحات القتال. إسرائيل لم تكن تهاجم قاعدة عسكرية فحسب، بل كانت تمزِّق شبكة القيادة من الداخل، في رسالة واضحة: "نعلم أين يسكن قادتكم، وأين ينام علماؤكم، ويمكننا الوصول إليهم من دون سابق إنذار".
ورغم أنَّ إسرائيل أعلنت مسؤوليتها عن الهجوم، فإنَّ واشنطن سارعت إلى التنصُّل من التورُّط. وزير الدفاع الأمريكي صرَّح بأن "الولايات المتحدة غير منخرطة في العمليات الأخيرة داخل إيران"، إلا أن الحقيقة الأوضح من الشمس أن لا شيء من هذا الحجم يحدث من دون ضوء أخضر أمريكي. بل إنَّ البعض يذهب إلى أبعد من ذلك، قائلين إن إسرائيل ليست سوى الأداة التنفيذية، بينما القرار الفعلي يُصنَع في واشنطن.
أمام هذا الهجوم غير المسبوق، أعلن المرشد الإيراني «علي خامنئي» أنَّ "الرد قادم" ولا تزال جميع الخيارات مفتوحة استعدادا لتحضير سَلَطة (بالمغربية "شلاضة)، لكن الرَّد نفسه محاط بعلامات استفهام كبرى. فإيران لا تملك حدودًا مباشرة مع إسرائيل، وقدراتها على تنفيذ هجوم عسكري نوعي في العمق الإسرائيلي يحتاج إلى جهد كبير لإحداث إصابات دقيقة وموجعة.
ما حدث يكشف عن نقطة ضعف مقلقة في بنية الدولة الإيرانية. أن يحدثَ استهداف هذا الكم من القادة والعلماء دون مقاومة تُذكر أو إنذار مسبق، فهذا يعني شيئًا واحدًا: الدولة مكشوفة استخباراتيًا بشكل مرعب. أين كانت منظومة الدفاع الجوي؟ أين كانت الحماية الإلكترونية؟ يبدو أن كل من في السُّلطة كان يعتقد أن إسرائيل ستقصف فقط المفاعلات تحت الأرض، لا غرف النوم في عمارات شمال طهران. إنه انتصار ساحق أخر للكيان سرطان الشرق الأوسط.
وكما أتصوَّر، لا شك أن رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو» سيوظِّف هذا الإنجاز سياسيًا داخليًا. قتل قادة "حماس" في غزة، ثم الآن قادة الجيش الإيراني، يرسِّخ صورته "كرجل الأمن الأوَّل". ولكن إلى أي مدى يمكن لهذا التصعيد أن ينقلب على إسرائيل؟ وهل بإمكان طهران أو حلفائها أن يقلبوا الطاولة؟ فالصين تراقب، وروسيا تغلي، والمشهد الجيوسياسي بات أكثر قابلية للانفجار من أي وقت مضى. في الختام... من نحن في هذه الحرب؟ البعض يتساءل بسذاجة: هل أنت مع إيران أم مع إسرائيل؟ والحقيقة أن هذا السؤال يفتقر لأبسط فهم للمشهد. نحن أمام صراع بين قوتين، كلتاهما تنتمي إلى مشاريع لا تمثِّل الشعوب العربية لا دينيًا ولا ثقافيًا. إسرائيل تمثل المشروع الصهيوني، وإيران تمثل مشروعًا طائفيًا توسعيًا، كلاهما يستنزف المنطقة بطرق وإيديولوجية مختلفة. ربما يكون من الأجدر أن نتوقَّف عن الانجرار وراء الاستقطابات، وأن نفكِّر في ما يعنيه هذا لنا كشعوب تبحث عن الحرية، الكرامة، والاستقلال، بعيدًا عن مشاريع الهيمنة، سواء كانت صهيونية أو فارسية.
أخيرا، يبقى الملف النووي من أكثر الملفَّات حساسية في الشرق الأوسط، في ظل غياب الشفافية، ووجود توازنات ردع هشّة، وخطاب تصعيدي متبادل بين أطراف النزاع. وبينما تسعى بعض الدول إلى احتواء الأزمة دبلوماسيًا، لا يزال شبح المواجهة قائمًا ما لم يحدث التوصُّل إلى تسوية شاملة تضمن أمن المنطقة واستقرارها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق