شهدت مواجهة "باريس سان جيرمان" و"بايرن ميونيخ" واحدة من تلك المباريات النادرة، التي لا تحتمل غفلة طرفة عين، خشية تفويت تفاصيل فنِّية وتكتيكية عالية المستوى. كان اللِّقاء مثيرًا ومشحونًا بالعواطف من البداية حتّى النهاية، مليئًا بالمهارات الرَّفيعة واللَّمسات الذكية التي تُسعد عشّاق كرة القدم الجميلة.
ورغم أن النتيجة النهائية – 2-0 لصالح "باريس سان جيرمان"، وضعت الفريق الفرنسي في نصف النهائي، ومع أن هدف «عثمان ديمبيلي» في الوقت المحتسَب بدل الضَّائع جاء في ظروف صعبة لفريقه الذي أنهى اللِّقاء بتسعة لاعبين – إلَّا أنَّ نقطة التحوُّل في المباراة لم تكن في الأهداف، بل في لحظة مأساوية واحدة، في ثانية منحوسة، في لقطة عابرة غير مقصودة، لكنَّها حطَّمت كل شيء.
في الدقيقة الثالثة من الوقت بدل الضائع من الشوط الأول، تحرَّك «جمال موسيالا»، صانع ألعاب "بايرن ميونيخ" العائد من إصابة أبعدته ثلاثة أشهر، لمحاولة إنقاذ كرة كان المدافع «ويليام باتشو» يعتقد أنها ستخرج إلى ركلة مرمى أو أن الحارس «جانلويجي دونّارومّا» سيتولى أمرها. لكن حارس "باريس سان جيرمان" تردَّد لوهلة، ثم اندفع بكل ثقله نحو الكرة، ونجح في الإمساك بها. غير أنَّ اندفاعه القوي أدَّى – من دون قصد – إلى اصطدام عنيف مع «موسيالا». وكانت العواقب وخيمة: علقت قدم اللاعب الألماني اليسرى تحت جسد «دونّارومّا»، ما تسبَّب في كسر كاحله.
كان المشهد مؤلمًا إلى حدِّ أن دموع «دونَّارومَّا» وانهياره النفسي كشفا عن فداحة الإصابة حتّى قبل وصول الطاقم الطبّي البافاري إلى أرض الملعب.
مأساة طغت على المتعة
هذه الحادثة المؤسفة غيّرت معالم مباراة كانت حتّى تلك اللَّحظة تُعتبر الأجمل فنِّيًا في البطولة. الحكم الإنجليزي «أنتوني تايلور»، الذي قدَّم أداءً باهتًا، أنهى الشوط الأول مبكِّرًا بدقيقة. ومع انطلاق الشوط الثاني، بدأ جزء من الجماهير، بشكل غير مبرَّر، بإطلاق صافرات الاستهجان ضد «دونّارومّا» كلما لمس الكرة.
"بايرن ميونيخ"، الذي فرض إيقاعه في الشوط الأول في مباراة متكافئة، احتاج نحو 15 دقيقة لاستعادة تركيزه، لكنه افتقد الحيوية والإبداع التي يمنحها «موسيالا» بلمساته ومراوغاته في الثلث الهجومي.
ورغم أن بطل أوروبا لم يتمكَّن من تقديم المستوى الذي قاده إلى قمَّة القارة، إلا أنه شعر بانفراج نسبي في الضغط العالي والمراقبة الفردية المحكمة التي اعتمدها المدرب «فنسنت كومباني» لتعطيل حركة البافاريين في وسط الميدان.
المواجهة لم تفقد إثارتها... لكنها لم تعد كما كانت
رغم أنَّ الوتيرة المرتفعة للمباراة لم تهدأ، فإنَّ اللِّقاء تغيَّر بعد إصابة «جمال موسيالا». وكان "بايرن ميونيخ" قد فاجأ الجميع بخطة رقابة فردية صارمة شملت كامل أرجاء الملعب، ما أدَّى إلى تحرُّكات غير معتادة للاعبيه في أماكن غير تقليدية. فقد شوهد قلب الدفاع «جوناثان تاه» في موقع الجناح الأيمن لملاحقة «فابيان رويز»، فيما كان الظهير الأيسر «ستانيسيتش» يلازم «باركولا» حتّى الطرف المقابل. أما «أوباميكانو»، عملاق الدفاع البافاري، فوجد نفسه في موقع الظهير الأيسر، حيث عانى أمام سرعة الجورجي «كفاراتسخيليا»، في حين تقدّم يوشوا كيميش إلى الأمام ليضيق المساحات على فيتينيا أثناء بناء الهجمات.
ورغم فعالية هذه الخُطَّة، فإنَّها لم تمنع الحارس «مانويل نوير» من التعرُّض لبعض المواقف الحرجة، إذ مرَّت تسديدات خطيرة من «دُوِي» و«فابيان» قرب مرماه، كما تصدى مرتين ببراعة لتسديدتين من «كفاراتسخيليا» في الهجمة ذاتها. من جهته، اضطر «جانلويدجي دونّارومّا» لبذل مجهود كبير للتصدّي لتسديدة قوية من «أوليس»، وأخرى كانت عبارة عن تمريرة متقنة من «بافلوفيتش» لمسها «موسيالا» برفق وكادت تخدع الحارس الإيطالي باتجاه القائم الأيسر.
باريس سان جيرمان... صمود حتى اللحظة الحاسمة
ورغم شعوره بعدم السيطرة على مجريات اللَّعب، أظهر "باريس سان جيرمان" في تلك المرحلة الأسباب التي جعلته يحتفل في النهاية. لم يتراجع ولم يتخلَّ عن فلسفته الكروية، بل واصل تنفيذ خطته بثقة وثبات. مستندًا إلى صلابة «ويليام باتشو» – الذي أنهى أداءه الرائع ببطاقة حمراء مباشرة إثر تدخُّل عنيف على ساق «غوريتسكا» قبل 8 دقائق من النهاية – وإلى النشاط اللامحدود لـ «جواو نيفيز»، والقدرة الفريدة لـ «فيتينيا» على إيجاد زوايا تمرير في أصعب اللَّحظات، قبل فريق المدرب لويس إنريكي التحدي من دون أن يفقد توازنه، مدرِكًا أن فرصته ستأتي.
ثلاث فرص... والحسم بقدم «دُوِي»
وقد صدق حدس الباريسيين. ففي الشوط الثاني، سنحت لهم ثلاث فرص حقيقية. أهدر «باركولا» أوَّلها في الدقيقة الثالثة حين انفرد بـ «مانويل نوير» لكنَّه لم ينجح في التغلُّب عليه، فيما أضاع ديمبيلي فرصة ثانية عند الدقيقة 28 بعد خطأ فادح من الحارس الألماني المخضرم. لكن «دُوِي» لم يخطئ، ففي الدقيقة 34، سدَّد كرة يسارية أرضية من خارج منطقة الجزاء باغتت «نوير» وسكنت الزاوية القريبة، بعد مجهود فردي مميز من «جواو نيفيز».
نهاية مشحونة بالعواطف والأحداث
ما تبقى من دقائق المباراة كان مشبَّعًا بالتوتُّر والإثارة. ففي الدقيقة 37، طُرد «باتشو» إثر تدخُّله العنيف، بعد دقيقة فقط من تعديل «لويس إنريكي» لطريقة لعبه بإدخال ثلاثة مدافعين في الخط الخلفي. ثم أُلغي هدف رأسي لـ «هاري كين» عند الدقيقة 41 بسبب التسلل، قبل أن يتلقَّى «لوكاس هيرنانديز» بطاقة حمراء مباشرة في الدقيقة 45 إثر اعتدائه بالمرفق على «رافائيل غيريرو»، ليكمل "سان جيرمان" الدقائق الأخيرة بتسعة لاعبين.
لم يُخطِئ "الباريسيون"، الذين خلقوا ثلاث فرص محقَّقة في الشوط الثاني. أهدر «باركولا» الأولى في الدقيقة الثالثة من انطلاق الشوط، حين واجه «مانويل نوير» في انفراد صريح لكنَّه لم ينجح في التسجيل. ثم جاءت الفرصة الثانية في الدقيقة 28 عبر «عثمان ديمبيلي»، الذي استغل هفوة كارثية من الحارس الألماني المخضرم، لكن تسديدته مرَّت على بعد سنتيمترات من المرمى. أما الثالثة، فكانت الحاسمة: في الدقيقة 34، أطلق «دُوِي» تسديدة يسارية أرضية من حافة منطقة الجزاء باغتت «نوير» واستقرَّت في الزاوية القريبة، بعد عمل فردي رائع من «جواو نيفيز».
بايرن يحاصر... وباريس يصمد ويُبدع
في الوقت بدل الضائع، بدا أن "بايرن ميونيخ" في طريقه لفرض حصار شامل على مرمى الفريق الفرنسي، غير أن "باريس سان جيرمان" قدّم درسًا في الصلابة الذهنية والقدرة على التماسك. رغم النقص العددي (9 لاعبين مقابل 11)، لم يلجأ الفريق الباريسي إلى إبعاد الكرة عشوائيًا، بل واصل اللعب بأسلوبه المعتاد، معتمدًا على الخروج المنظم بالكرة من مناطقه.
في إحدى تلك المحاولات، مرَّر «فيتينيا» كرة بينية رائعة إلى «ديمبيلي»، الذي سدَّد بقوة لتردَّ العارضة محاولته. وفي محاولة أخرى، قدّم الدولي المغربي «أشرف حكيمي» فاصلاً مهاريًا رائعًا، تخلَّص خلاله من ثلاثة مدافعين على الطرف الأيمن، ثم مرَّر كرة حاسمة إلى «ديمبيلي» الذي أطلق تسديدة قوية سكنت الزاوية البعيدة، مؤكدًا فوز فريقه بهدف ثانٍ وضع نقطة الختام على مباراة لا تُنسى.
وداع مرير لبايرن... وتأهل مستحق لباريس
غادر "بايرن ميونيخ" البطولة، ودفع ثمن هزيمته في دور المجموعات أمام "بنفيكا"، التي وضعته في مسار أكثر تعقيدًا من منافسيه. أما "باريس سان جيرمان"، فواصل رحلته نحو المجد، مضيفًا إلى ترسانته المهارية والتكتيكية قدرة عالية على الصمود والتعافي من الضربات.
مرَّة أخرى، كادت كرة القدم، بعدلها القاسي، أن تُغطي على روعة مباراة استثنائية بلقطة مأساوية. لكنها هذه المرة فشلت، وخرج باريس منتصرًا... بالنتيجة وبالروح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق