وبموجب هذا الاتِّفاق، سيرتفع عدد الدَبَّابات البولندية العاملة إلى 1100 دبَّابة، متجاوزًا مجموع ما تملكه بريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا مجتمعين، والذي يبلغ 950 دبابة فقط. وبهذا تصبح بولندا ثالث أكبر قوَّة مدرَّعة بين دول "الناتو"، بعد تركيا (2238 دبابة) واليونان (1344 دبابة).
ويمثل العقد، الذي تتجاوز قيمته 6 مليارات يورو، أحدث حلقة في برنامج تسليحي واسع بدأته بولندا عام 2022، عندما أبرمت صفقة بـ3.4 مليارات دولار مع سيول لشراء راجمات صواريخ K239 "تشونمو"، وطائرات هجومية خفيفة FA-50، ومدافع ذاتية الدفع K9. الاتفاق الجديد يتضمن تسليمًا متسارعًا يبدأ من 2026 وحتَّى 2030، ويشمل أيضًا برامج تدريب لوجستي، ودعمًا تقنيًا وصيانيًا، بالإضافة إلى بند لنقل التكنولوجيا، حيث سيتم تجميع 61 دبابة داخل بولندا في مصنع Bumar Łabędy بمدينة "غليفيتسه"، ما يعزز بدوره قطاع الصناعات الدفاعية المحلي.
وقال وزير الدفاع البولندي ونائب رئيس الوزراء «فلاديسلاف كوسينياك-كامييش» عبر منصة "إكس": “هذه صفقة كبرى لأمن وطننا وصناعتنا الدفاعية. إنها بداية لاستعادة إنتاج الدبَّابات داخل بلادنا”، مشيرًا إلى البُعد الرمزي لتاريخ توقيع الاتفاق، الذي يتزامن مع الذكرى الـ81 لانتفاضة وارسو ضد الاحتلال النازي.
Rozpoczęła się pierwsza zagraniczna wizyta ministra obrony Korei Południowej. W Gliwicach rozmawialiśmy o wzmacnianiu współpracy naszych krajów w dziedzinie bezpieczeństwa i o kontraktach zbrojeniowych, które są już realizowane. Ważną kwestią były sprawy związane ze współpracą… pic.twitter.com/SMnQCqoACg
— Władysław Kosiniak-Kamysz (@KosiniakKamysz) August 1, 2025
توجُّه جيوسياسي يتجاوز أوروبا
اختيار بولندا التعاون مع مزوِّدين غير أوروبيين، وعلى رأسهم كوريا الجنوبية والولايات المتحدة، لا يعكس فقط اعتبارات فنِّية، بل توجُّهًا جيوسياسيًا واضحًا. فبينما تسعى بروكسل إلى تعزيز استقلالية أوروبا الدفاعية عبر مبادرات مثل "إعادة تسليح أوروبا" (ReArm Europe)، فإن "وارسو" تُرسِّخ تموضعها في إطار الحلف الأطلسي، وتولي ثقتها لواشنطن بدلًا من الاتحاد الأوروبي.
وبالفعل، لم تقتصر مشتريات بولندا على دبابات K2 الكورية، بل شملت أيضًا دبابات M1 Abrams، ومروحيات Apache، ومنظومات HIMARS الصاروخية، وأنظمة باتريوت الدفاعية الأميركية، ما جعلها – وفقًا لوزير الدفاع الأميركي «بيت هيغسيث» – "الحليف المثالي لحلف الناتو".
هذا التموضع الاستراتيجي يجد ترجمته في الواقع المالي أيضًا، إذ تبلغ الميزانية الدفاعية البولندية %4.7 من الناتج المحلي الإجمالي (35 مليار يورو)، وهي النسبة الأعلى في حلف "الناتو"، ما يجعل بولندا أكبر مستثمر عسكري في أوروبا نسبة إلى حجم اقتصادها.
تغيير في البنية الاجتماعية... واستدعاء للتاريخ
لا يتوقَّف مشروع التسلح البولندي عند تحديث العتاد العسكري، بل يتعداه إلى إعادة تشكيل المجتمع والبنية التعليمية. فقد أدخلت الحكومة برامج تعليمية جديدة في المدارس الثانوية تشمل التدريب العسكري، والتوعية بالأمن القومي، والتعليم الاستراتيجي، في محاولة لغرس ذهنية "ما قبل الحرب" لدى الأجيال الشابة.
وفي موازاة ذلك، تتسع دائرة التعبئة المدنية: الخطاب المعادي لروسيا يهيمن على الإعلام والساحة العامة، وتلقى القوات الدفاعية المحلية والأنشطة التطوعية العسكرية دعمًا متزايدًا من الدولة، في ظل تصور متنامٍ لبولندا باعتبارها "قلعة الغرب" على تخوم روسيا. وقال «كوسينياك-كامييش» خلال مؤتمر صحفي مشترك مع وزير الدفاع الأميركي في فبراير الماضي: "علينا أن نستثمر باستمرار، ونتذكر أن «بوتين» أو أي ديكتاتور أخر قد يهدِّد أمننا في أي وقت. هذا لن ينتهي".
تاريخ يعيد تشكيل العقيدة الدفاعية
اندفاع بولندا نحو التسلُّح لا يرتبط فقط بالحرب في أوكرانيا أو التوتُّرات على الحدود مع بيلاروسيا، بل يعكس أيضًا وعيًا تاريخيًا بجغرافيا بلد لطالما كان معبَرًا مفتوحًا أمام الجيوش الغازية. ففي القرن العشرين، شهدت بولندا اجتياحين مُدَمِّرَين، من النازيين عام 1939 ومن السوفييت بين 1944 و1945، وهو ما دفعها اليوم إلى تبني عقيدة دفاعية تقوم على السيطرة العدوانية على الجبهة البرية من خلال التفوق المدرع.
وبذلك، يتحوَّل "الرَّدع" من مفهوم دفاعي تقليدي إلى أداة إسقاط للنفوذ، ما يجعل من بولندا ليس فقط دِرعًا، بل لاعبًا محوريًا في الاستراتيجية الأطلسية لاحتواء التهديد الروسي. لم يعد التسلُّح مجرد وسيلة، بل غاية في حد ذاته، يندرج ضمن سياسة حكومية شاملة بقيادة رئيس الوزراء الوسطي «دونالد توسك»، الذي يرفع راية العداء لروسيا كعنوان لتَوجُّهِهِ الاستراتيجي.
وجه جديد لأوروبا يتشكَّل من الشرق
بهذا المسار التصاعدي، لا تبدو بولندا مجرَّد قوَّة صاعدة على الساحة الأوروبية، بل نموذجًا جديدًا لأوروبا تتقاطع فيه الذاكرة التاريخية مع المخاوف الأمنية والطموحات الجيوسياسية. وفي أفق عام 2030، تتأهَّب بولندا لتحديد ملامح المعادلة الأمنية للقارة العجوز، من موقعها كقوَّة مدرعة على خط التماس مع الشَّرق الروسي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق