«ميلوني»، التي أُسقطت عنها الشبهات رسميًا في التحقيقات المتعلِّقة بالقضية، وصفت قرار المحكمة الخاصة بالوزراء – التي رأت عدم وجود أدلَّة كافية لتوجيه الاتِّهام إليها – بأنه "سخيف بشكل واضح". المحكمة كانت قد أقرَّت بأن «ميلوني» لم تلعب دورًا مباشِرًا أو حاسِمًا في تنفيذ ما وصفته بـ"برنامج إجرامي" لترحيل الجنرال الليبي الذي كان موقوفًا بناءً على مذكِّرة صادرة عن المحكمة الجنائية الدولية.
وبحسب المحكمة، فإنَّ المسؤولية المباشِرة في تنفيذ القرار تقع على عاتق وزيري الداخلية والعدل، «ماتيو بيانتيدوزي» و «كارلو نورديو»، إضافة إلى وكيل الحكومة المفوَّض بملف الاستخبارات، «ألفريدو مانتوفانو». وجرت إحالة ملفاتهم للبرلمان بغرض طلب الإذن بمحاكمتهم، في خطوة يُتوقَّع أن تُجهضها الأغلبية اليمينية المهيمنة على البرلمان.
وفي تعليقها على القرار، قالت «ميلوني»: «من غير المعقول أن يكون وزرائي قد تصرَّفوا في قضية بهذه الخطورة من دون أن يتشاوروا معي»، مؤكِّدةً على أنَّ الحكومة تعمل بـ"تناغم كامل تحت قيادتي"، في إشارة إلى أنها وافقت على ترحيل "جلاد طرابلس"، الذي أوقفته شرطة مكافحة الإرهاب في تورينو بموجب أمر من المحكمة الجنائية الدولية، قبل أن يُفرَج عنه ويُرحَّل لاحقًا إلى ليبيا على متن طائرة تابعة لسلاح الجو للدولة الإيطالية.
موقف جديد... بعد صمت طويل
ما يثير الانتباه في تصريحات «ميلوني» هو أنَّها المرَّة الأولى التي تتبنَّى فيها رسميًا مسؤولية القرار، بعدما حرصت خلال الأشهر الماضية على الابتعاد عن الجدل، وتركت لوزير العدل «نورديو» مهمَّة تبرير تصرُّفات الحكومة أمام الرأي العام.
لكن رغم نبرة التحدِّي التي اتَّسمت بها تصريحاتها، فإنَّ المحكمة لم تبرِّئها على أساس أنَّها "لم تكن على علم"، بل لأنَّها لم تمارِس، وفقًا للمحقِّقين، دورًا مباشِرًا أو تُصدِر توجيهات قاطعة للوزراء المعنيين بشأن القرار.
![]() |
وزيرا العدل والداخلية، كارلو نورديو (يمين الصورة) وماتيو بيانتيدوزي (يسار الصورة)، خلال حضورهما في مجلس النواب في 25 يونيو 2025. |
وفي وثائق المحكمة التي رافقت قرار حفظ التحقيق، أُدرجت عدة مؤشِّرات تُظهر وجود صلة محتملة بين «ميلوني» والقرار، غير أن هذه المؤشِّرات لم تُعتبر كافية لصياغة اتِّهام جنائي معقول.
شهادات وقرائن غير حاسمة
أبرز ما استندت إليه المحكمة هو شهادة رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية، الجنرال «جوفانّي كارافيلّي»، الذي أشار إلى أنَّ «ميلوني» كانت "بالتأكيد على علم"، لكنَّه لم يُحدِّد طبيعة المعلومات التي اطَّلعت عليها، ولم يُقدِّم أي أدلَّة ملموسة كرسائل إلكترونية أو أوامر رسمية. ونقل عنه القول: «أفترض، بناء على ما قاله «مانتوفانو»، أنها (ميلوني) كانت موافقة». وهي إفادة تُعد ضعيفة قانونيًا لغياب الدلائل المباشرة.
ومن المؤشِّرات الأخرى، وجود مذكِّرة دبلوماسية من السُّلطات الليبية تُعرب فيها عن "شكرها العميق" للحكومة الإيطالية على الإفراج عن الجنرال "جلاد طرابلس". ووفقًا لما جاء في وثائق المحكمة، فإنَّ المذكِّرة وُجِّهت مباشرة إلى «ميلوني»، إلَّا أنَّ القضاة رأوا أن هذا لا يُشكِّل دليلًا دامغًا على دورها المباشر، إذ تُوجَّه مثل هذه المذكرات عادةً إلى أعلى سلطة تنفيذية في الدولة كإجراء بروتوكولي معتاد.
تشابه مع قضية سابقة
قرار حفظ التحقيق ضد «ميلوني» لا يُعد سابقة في السياق الإيطالي. ففي عام 2021، طلبت نيابة باليرمو محاكمة وزير الداخلية آنذاك «ماتيو سالفيني» بسبب رفضه إنزال مهاجرين على متن سفينة "أوبن آرمز"، متهمةً إياه باحتجاز أشخاص ورفض أداء واجباته الوظيفية. لكن النيابة لم تتقدَّم بأي إجراء ضد رئيس الوزراء حينها، «جوزيبّي كونتي»، لعدم وجود أدلَّة تثبت تدخُّله المباشر في القرار.
الأمر نفسه يتكرَّر مع «ميلوني»: لا أدلَّة كافية على أنَّها أمرت أو فرضت على وزرائها اتِّخاذ قرار ترحيل الجنرال الليبي، حتَّى وإن كانت على علم به.
وفي خضم التحقيقات المتعلقة بترحيل الجنرال الليبي «أسامة نجيم»، أكدت رئيسة الوزراء الإيطالية «جورجا ميلوني» أنها تتحمّل كامل المسؤولية السياسية عن القرار، في خطوة جديدة تباعد فيها بوضوح بينها وبين سلوك سلفها «جوزيبي» كونتي في قضايا مشابهة.
وقالت «ميلوني» في تصريحاتها الأخيرة: «على عكس بعض من سبقني، الذين نأوا بأنفسهم عن وزرائهم في مواقف مماثلة، أؤكد أن حكومتي تتخذ قراراتها بتنسيق كامل وتحت قيادتي. كل قرار، لا سيما إذا كان بهذه الأهمية، هو ثمرة توافق جماعي».
لكن تصريحات «ميلوني» لم تقتصر على الجانب السياسي، بل طالت أيضًا الجانب القضائي. إذ انتقدت بشدَّة طلب محاكمة الوزراء المعنيين – «بيانتيدوزي»، «نورديو» و «مانتوفانو» – دون أن يشملها الأمر، ووصفت ذلك بـ"غير المنطقي"، معلنةً استعدادها للجلوس إلى جانبهم في البرلمان لحظة التصويت على طلب الإذن بالملاحقة القضائية، رغم أن نتيجة التصويت محسومة سلفًا لصالح الرَّفض بفعل الأغلبية البرلمانية اليمينية.
تحوُّل مفاجئ بعد غياب طويل
تصريحات «ميلوني» هذه تُعد تحوُّلًا لافتًا في موقفها، بعد أشهر من تجنُّبها التطرُّق علنًا إلى قضية "المصري". ففي 5 فبراير الماضي، عندما قدّم «نورديو» و «بيانتيدوزي» إفاداتهما أمام البرلمان بشأن الواقعة، غابت «ميلوني» كُلِّيًا عن المشهد، ما أثار انتقادات من قبل المعارضة.
زعيمة الحزب الديمقراطي «إيلي شلاين» سخرت من موقف «ميلوني»، واصفة إياه بـ"تصرُّف رئيسة أرنب وليس رئيسة وزراء"، في حين اتَّهمها «ماتيو رينسي» بالجُبن السياسي، وشَبَّهها بـ"رجل الزبدة" من قصة «بينوكيو».
ورغم ما توفَّر لها من فرص سابقة، امتنعت «ميلوني» مرارًا عن الاعتراف الصريح بمسؤولية حكومتها في القرار، بل حاولت في وقت سابق التنصُّل منه، معتبرة أن إطلاق سراح "المصري" وتهريبه لم يكن قرارًا سياسيًا بل قضائيًا اتَّخذته محكمة الاستئناف في روما.
وقالت في 26 يناير الماضي: «ما تقوم به الحكومة عندما يكون هناك شخص يُشكِّل خطرًا على الأمن القومي هو ترحيله فورًا من الأراضي الإيطالية».
لكن هذه الرواية الرسمية تبدو متناقضة مع وثائق ظهرت لاحقًا، بينها مذكرة قدّمتها الحكومة الإيطالية نفسها إلى المحكمة الجنائية الدولية، تشير إلى أن قرار الترحيل جاء ردًا على طلب تسلّمه رسمي من النيابة العامة في طرابلس بتاريخ 20 يناير، تطلب فيه تسليم المصري إلى ليبيا.
دور الحكومة كان أكبر مما أُعلن
الوزير «نورديو» نفسه كان قد ألمح أمام البرلمان إلى أن "قرار إطلاق سراح رئيس الشرطة القضائية الليبية جرى بالتنسيق مع "جهات أخرى في الدولة"، من دون أن يوضِّح من هي. وعندما حاول الصحفيون استيضاح المقصود، ما إذا كانت الرئاسة أو الاستخبارات أو رئيسة الحكومة، رفض الوزير الرَّد. أمَّا نائب حزب "افراتيلّي دِ إيطاليا" الحاكم، «جوفانّي دونزيلّي»، فقلَّل من أهمِّية مطالب المعارضة بالحصول على توضيحات مباشرة من «ميلوني»، واصفًا إياها بـ"الذرائعية".
ومع مرور الوقت، بدأ يتَّضح أن القرار الذي حاولت الحكومة الإيطالية تصويره في البداية على أنَّه إجراء تقني أو قضائي، هو في حقيقته قرار سياسي بامتياز، شاركت فيه أعلى المستويات التنفيذية في الدَّولة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق