الإيطالية نيوز، الخميس 23 أكتوبر 2025 – “الإبادة الجماعية الجارية في غزة تمثِّل جريمة جماعية، يدعمها تواطؤ دولٍ مؤثِّرة جعلت سياساتٍ الاحتلال والحصار والقصف ممكنة ومستمرة.” بهذه الكلمات استهلَّت المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة المعنية بالأراضي الفلسطينية المحتلة، «فرانشيسكا ألبانيزي»، تقريرها الأخير (A/80/492) المعنون «إبادة غزة: جريمة جماعية»، الذي تتّهم فيه إسرائيل بشنّ حملة «ممنهَجَة ومتعمَّدة» لتدمير الشعب الفلسطيني، بدعم من دولٍ وشركاتٍ أسهمت في استمرار المجزرة من خلال الدعم العسكري والسياسي والدبلوماسي والاقتصادي المطوّل. 
ويشير التقرير إلى تردُّد المجتمع الدولي في مساءلة إسرائيل عن أفعالها، ما سمح لها بتعزيز ما تصفه «ألبانيزي« بـ«نظام الفصل العنصري الاستيطاني» في الأراضي الفلسطينية المحتلَّة، والوصول إلى مستويات غير مسبوقة من العنف وجرائم دولة.
ولا يكتفي التقرير بوصف ما يجري بأنه «جرائم حرب» أو «استخدام مفرط للقوة»، بل يذهب أبعد من ذلك، ليؤكد أن ما يحدث هو مشروع منسّق يهدف إلى إبادة جماعية تستهدف جماعة بشرية يحميها القانون الدولي.
وتحذّر «ألبانيزي» من أنَّ قبول المجتمع الدولي بهذه الاتِّهامات قد يُعيد صياغة المسؤوليات العالمية في النزاع الفلسطيني–الإسرائيلي، ويفتح الباب أمام ملاحقات قانونية بتهمة الإبادة الجماعية.
جريمة جماعية
في التقرير رقم A/80/492، تُحدِّد المقرِّرة الخاصَّة للأمم المتحدة مسؤوليات تمتدُّ إلى ما وراء حدود «قطاع غزة». وقد أُعدَّ النَّص بعدما استُعرض تحقيقًا لمواد منظّمَة الأمم المتَّحدة، بما في ذلك تقرير الأمين العام رقم A/79/588، إضافة إلى 40 مساهمة وردت من جهات فاعلة حكومية وغير حكومية.
وذكر التقرير أنّ جميع الدول الـ63 التي وردت أسماؤها نالت فرصة للتعليق على أيّ أخطاء أو مغالطات واقعية، وقد قدَّمت 18 دولة ردودها بالفعل. ويقول النَّص إنَّ «تدمير البُنى التحتية المدنية، وحرمان الناس من وسائل العيش الأساسية، والتهجير القسري لشرائح واسعة من السكّان، وفرض ظروف معيشية تهدف إلى إحداث تدمير جزئي أو كُلّي للجماعة المحمية — كليًا أو جزئيًا» تشكّل مؤشِّرات على نيَّة إبادة جماعية.
وبناءً على ذلك، يؤكِّد التقرير على أنّّ ما يجري لا يمكن تبريره بوصفه أضرارًا جانبية أو حوادث حرب عرضية، بل هو مشروع شامل يسعى إلى التدمير.
مسؤولية مشتركة ومتجذّرة
ترى «فرانشيسكا ألبانيزي» أن المسؤولية مشتركة و«لا تقع على عاتق القوة القائمة بالاحتلال وحدها». فإلى جانب إسرائيل، فإن الدول الأخرى أيضًا «ملزَمة ليس فقط بالامتناع عن تقديم الدعم أو المساعدة في ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية أو غيرها من الانتهاكات الجسيمة، بل كذلك باتِّخاذ تدابير نشطة لمنع وقوع أعمال إبادة عندما يكون خطرها معلومًا أو كان ينبغي أن يكون معلومًا».
غير أنَّ العامَين الماضيين شهدا، بحسب التقرير، «تواطؤًا متجذِّرًا» تبنَّى الرواية الإسرائيلية وروَّج دِعايتها، ما أدَّى إلى إسكات الدعوات العاجلة للتحرُّك وحجب شبكة المصالح السياسية والمالية والعسكرية المتشابكة خلف الأحداث.
ويُعتبر استخدام اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948 إطارًا تفسيريًا محوريًا في التقرير، إذ يشير إلى أنَّ ثلاثة من الأفعال الخمسة التي تنصُّ عليها الاتفاقية «موثَّقة على نطاق واسع»، فيما «يتطلَّب الفعلان الآخران مزيدًا من التحقيق»، لكنَّ المجمل يشير بوضوح إلى وجود نيَّة إبادة جماعية.
اتِّهامات حادّة موجَّهة إلى الولايات المتحدة
  | 
| الرئيس دونالد ترامب يلقي كلمته أمام الدورة الثمانين للجمعية العامة للأمم المتحدة، الثلاثاء 23 سبتمبر 2025، في مقرّ المنظمة الدولية بنيويورك | 
وَجَّه التقرير انتقادات شديدة اللَّهجة إلى الولايات المتحدة، مُتَّهمًا إياها بلعب دور محوري في تمكين إسرائيل من مواصلة حملتها العسكرية عبر دعم مالي وعسكري واسع النطاق يضمن لها ما يُعرَف بـ«التفوُّق العسكري النوعي».
ومنذ عام 1967، تُعدّ إسرائيل أكبر متلقٍ لتمويل «برنامج المساعدات العسكرية الأمريكية» (FMF)، إذ تحصل سنويًا على 3.3 مليارات دولار إضافة إلى 500 مليون دولار مخصَّصة للدفاع الصاروخي. وتوفِّر واشنطن لإسرائيل الأسلحة، والوصول إلى المخازن الأمريكية، والتمويل لشراء الطائرات المقاتلة والذخائر، بما في ذلك من شركات إسرائيلية.
كما يدعم الوصول إلى صناديق التوريد الأمريكية مشتريات إسرائيل من مقاتلات F-15 وF-16 وF-35 ومن الذخائر، عبر ترتيبات خاصة تستفيد منها الفروع الإسرائيلية العاملة داخل الولايات المتحدة.
وبعد 7 أكتوبر 2023، استخدمت واشنطن حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي سبع مرَّات، لتعطيل قرارات وقف إطلاق النار، ومنحت إسرائيل غطاءً دبلوماسيًا كاملًا.
وفي العامين الماضيين، أرسلت الولايات المتحدة 742 شحنة أسلحة إلى إسرائيل ووافقت على صفقات بقيمة عشرات المليارات من الدولارات، وسط تراجع في الشفافية وتجاوز لصلاحيات «الكونغرس»، وقد شمل الدعم مدفعية وصواريخ وبنادق وقنابل، إضافة إلى طائرات مُسيَّرة وقوّات خاصَّة شاركت في عمليات ضدَّ حركة «حماس».
وبحلول أبريل 2025، كانت إسرائيل تمتلك 751 عقدًا نشطًا بقيمة إجمالية بلغت 39.2 مليار دولار.
تواطؤ الدول الأخرى
  | 
| رئيس الوزراء كير ستارمر يلتقي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب في اجتماع ثنائي بالبيت الأبيض. | 
واشنطن ليست وحدها في هذا المشهد. فوفقًا للتقرير، فإنَّ امتناع بعض الحلفاء عن التصويت، وتأجيل القرارات، وتخفيف لهجة مشاريع القرارات الأممية، كلّها عوامل سمحت باستمرار العمليات العسكرية الإسرائيلية.
ولعب المملكة المتحدة، المتحالفة مع الولايات المتحدة حتّى نوفمبر 2024، دورًا محوريًا في التعاون العسكري مع إسرائيل، إذ وفّرت عبر قاعدة قبرص الإمدادات اللوجستية الأمريكية، ونفَّذت أكثر من 600 مهمة استطلاع فوق غزة، مع تبادل معلومات استخبارية مع «تل أبيب».
وفي الفترة بين أكتوبر 2023 وأكتوبر 2025، قدَّمت 26 دولة — بينها إيطاليا، والصين، والهند، وفرنسا — أسلحة أو مكوِّنات عسكرية لإسرائيل، في كثير من الأحيان عبر قنوات غير شفافة أو من خلال منتجات «ذات استخدام مزدوَج» (أي التي يمكن أن تُستعمل لأغراض مدنية أو عسكرية على حد سواء).
وتُصنَّف إيطاليا كـ ثالث أكبر مُصَدِّر للأسلحة إلى إسرائيل بين عامي 2020 و2024، إذ واصلت عمليات التوريد وسمحت بمرور شحنات الأسلحة عبر موانئها ومطاراتها، رغم إعلانها الالتزام بالقيود الدولية. كما تشارك في تدريبات عسكرية مشتركة مع إسرائيل مثل مناورات “إينيوخوس” (INIOCHOS) والتدريبات التي يقودها القيادة الأمريكية في إفريقيا (AFRICOM)، مما يسهم بشكل غير مباشر في تعزيز القدرات العسكرية الإسرائيلية.
وفي المقابل، زادت إسرائيل صادراتها من الأسلحة بنسبة %18 خلال العامين الأخيرين — معظمها جُرِّبت في قطاع غزة — ليصبح الاتحاد الأوروبي أكبر مشترٍ لتلك الأسلحة.
بيانات وشهادات ودمار شامل
يُوثِّق التقرير طيفًا واسعًا من الانتهاكات، تشمل تدمير أو إلحاق أضرار جسيمة بالبنى التحتية المدنية، وقيودًا حادَّة على الوصول إلى المياه والكهرباء والوقود، إضافة إلى مستشفيات منهكة أو مدمَّرة، وسكّان يعيشون في شبه حصار كامل للحركة والتنقُّل.
وتؤكِّد «فرانشيسكا ألبانيزي» على أنَّ هذه الأوضاع ليست نتائج عرضية للحرب، بل «جزء أساسي من استراتيجية تدمير ممنهجة».
كما يشير التقرير إلى دور الشركات الدولية في هذا النظام، موضِّحًا أن «نقل الأسلحة من قبل الدول، واستمرار الدعم الدبلوماسي والسياسي للعمليات العسكرية، والإبقاء على العلاقات التجارية الاعتيادية مع قوة الاحتلال، كلّها عوامل تمكّن آلة التدمير في قطاع غزة من العمل بإفلات تام من العقاب».
وبحسب المقرِّرة الأممية، تتحوَّل «اقتصاديات الاحتلال» في هذا السياق إلى ما تصفه بـ«اقتصاد الإبادة الجماعية»، وهو نظام تُغذِّيه المصالح والأرباح العامَّة والخاصَّة على حدٍّ سواء.
وكان تقريرها السابق، «من اقتصاد الاحتلال إلى اقتصاد الإبادة»، قد أثار جدلًا دوليًا واسعًا، بعدما تحدّث صراحة عن «اقتصاد الإبادة» وسمّى الشركات المتورطة في الجرائم الإسرائيلية. ونتيجة لذلك، فرضت الولايات المتحدة في 9 يوليو 2025 عقوبات على فرانشيسكا ألبانيزي ردًّا على تلك الاتهامات.
دور الدول الثالثة والشركات
يتحدّى التقرير الجديد بشكل مباشر الحكومات والشركات عبر الحدود، مشيرًا إلى أنّ 63 دولة — من بينها عدد كبير من الدول الأوروبية — استمرت في تقديم أشكال من الدعم السياسي أو العسكري أو الاقتصادي لإسرائيل، رغم علمها بمخاطر ارتكاب جرائم دولية جسيمة.
ويحمّل التقرير الشركات العالمية مسؤولية المشاركة في ما يصفه بـ«تسهيل أو القبول بتدمير جماعة بشرية محمية بموجب القانون الدولي»، داعيًا الدول إلى النظر في المسؤولية الجنائية للشركات، على غرار ما جرى في المحاكمات الدولية السابقة.
كما تحثّ «فرانشيسكا ألبانيزي» الحكومات على اتخاذ تدابير ملموسة تشمل فرض العقوبات، وإنهاء الاتفاقات التجارية، وسحب تراخيص تصدير المعدات العسكرية أو مزدوجة الاستخدام إلى إسرائيل وشبكاتها الصناعية، بوصفها خطوات ضرورية لمساءلة المتورطين في منظومة الإبادة الجماعية.
التداعيات الإنسانية والمدنية
يضع التقرير في صلبه الآثار الكارثية على الحياة اليومية لسكان قطاع غزة، حيث أدّت الحرمان من سبل العيش، والحصار الطويل على المساعدات، وقطع طرق النقل الخارجية، والتهديد الدائم بالقصف إلى ظروف معيشية قاسية إلى حدّ البقاء على قيد الحياة بصعوبة.
وتؤكد «فرانشيسكا ألبانيزي» أن النظام القائم بأكمله صُمّم بحيث تكون «تدمير الحياة اليومية في قطاع غزة عملية مقصودة ومنسّقة»، مشددة على أن السكان المدنيين لا يُعاملون كضحايا جانبيين للنزاع، بل كهدف مباشر ومتعمد.
ويُبرز التقرير أن البنية التحتية المدنية — بما في ذلك المراكز الصحية والمدارس وشبكات الكهرباء والمياه — تُدمَّر بصورة متكرّرة أو تُشلّ عن العمل، ما يفاقم من أزمة إنسانية غير مسبوقة. ويرى التقرير أن هذه الأزمة ليست نتيجة ثانوية للحرب، بل عنصر جوهري في مشروع متكامل يرمي إلى تدمير جماعة بشرية محمية بموجب القانون الدولي.
توصيات ومسؤولية دولية
يختتم التقرير بجملة من التوصيات الحاسمة التي تدعو إلى وقف فوري لإطلاق النار، وفرض حظر شامل على توريد الأسلحة إلى إسرائيل، وتجميد نشاط الشركات العاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى جانب تشكيل قوة دولية لحماية سكان قطاع غزة، وإنشاء آليات قضائية وطنية ودولية لمحاسبة الدول والشركات التي تسهّل أو تساهم في جريمة الإبادة الجماعية.
ويؤكد التقرير أن «الاعتراف بالطابع الإبادي لهذه الديناميكية لا يتطلب انتظار حكم محكمة العدل الدولية، إذ إن الواجب القانوني في الوقاية والتحرك هو فوري».
ويحمل التقرير رسالة واضحة وصريحة: لم يعد ممكنًا التعامل مع قطاع غزة كجبهة هامشية في نزاع إقليمي، بل كـ«مختبر لتدمير جماعة بشرية محمية بالقانون الدولي»، يتحمل المسؤولية عنه — بنسب متفاوتة — كل من القوة القائمة بالاحتلال، والدول الثالثة، والشركات المتورطة في استمرار منظومة الإبادة.
ما تداعيات التقرير على إيطاليا وأوروبا؟
يُلزِم التقرير إيطاليا والاتحاد الأوروبي بإعادة نظر عميقة لا يمكن تأجيلها. فمع الإشارة إلى عدد من الدول الأوروبية بوصفها "مساهِمة أو ميسّرة" — بشكل مباشر أو غير مباشر — للسياسات التي تناولتها «فرانشيسكا ألبانيزي»، تصبح الحاجة ملحّة لاعتماد إجراءات تشريعية وسياسية تتجاوز مجرد بيانات الإدانة.
وتشمل هذه الإجراءات المحتملة سحب تراخيص تصدير الأسلحة إلى إسرائيل، وتعليق الاتفاقات التجارية معها، وتقييم أنشطة الشركات الأوروبية العاملة في الأراضي الفلسطينية المحتلة، إلى جانب تغيير فعلي في الاستراتيجية الأوروبية باتجاه حماية حقيقية للسكان الفلسطينيين.
ويؤكِّد التقرير، في جوهره، على أنَّ الحياد لم يعد خيارًا ممكنًا، وأنَّ السُّكوت أو التقاعس السياسي والاقتصادي يُعدّ شكلاً من أشكال التواطؤ في نظام الإبادة الجماعية القائم.
الدول أمام خيار مصيري
  | 
| في الصورة: المقرّرة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي. | 
يكشف تقرير «ألبانيزي» عن صورة مقلقة ومعقّدة: شعب يتعرّض لهجوم متواصل، واستراتيجية تدمير منهجي، واقتصاد حرب تشارك فيه شركات عالمية، ونظام دولي يتواطأ أو يقاوم أو يقف مكتوف الأيدي.
وفي ضوء خطورة الاتهامات المطروحة، يجد الشرق الأوسط — ومن ورائه أوروبا — نفسه أمام مفترق طرق تاريخي: إما التدخُّل الفعلي لوقف المأساة، أو البقاء في موقع المتواطئ بالصمت والتقاعس.
ولا يقتصر التقرير على إدانة سياسات الاحتلال أو تدمير المستوطنات، بل يُعدّ نداءً إلى النظام الدولي بأسره. وجاء في خاتمته: “العالم يراقب غزة وكل فلسطين. على الدول أن تتحمَّل مسؤولياتها. وحده ضمان حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره — المنتهَك بوضوح عبر الإبادة الجارية — كفيل بتفكيك البنى القسرية العالمية التي تُكرِّس الاضطهاد. لا يمكن لأي دولة أن تدّعي التزامها بالقانون الدولي وهي تزوّد أو تدعم أو تحمي نظامًا يرتكب إبادة جماعية. يجب أن يُعلَّق كل دعم عسكري وسياسي، وأن تُسخّر الدبلوماسية لمنع الجرائم، لا لتبريرها. لقد آن أوان إنهاء التواطؤ في الإبادة.”
 
ويخلص التقرير إلى أن إيطاليا، شأنها شأن بقية الدول، مدعوة إلى الاختيار: إما الاستمرار في التواطؤ داخل منظومة تستفيد من النموذج العسكري–الاقتصادي القائم، أو الانخراط في حماية شعب يتعرَّض للإبادة الجماعية.
فالرِّهان لا يقتصر على السياسة أو الدبلوماسية فحسب، بل يتعلَّق بـ مصداقية القانون الدولي ذاته، وبـ قدرة الإنسانية على حماية أضعف مكوّناتها من التدمير الممنهج.
 
 
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق