من خلال مؤسسته «معهد طوني بلير للتغيير العالمي» (Tony Blair Institute for Global Change)، أعاد بلير صياغة دوره كلاعبٍ محوري في بنية القوة المعاصرة، حيث تمتزج السياسة بالإدارة الرقمية، ويصبح البيان السياسي معادلة رياضية، والدبلوماسية منظومة بيانات. يتحرك بلير اليوم بين مشاريع إعادة إعمار غزة ومبادرات التحول الرقمي في المملكة المتحدة، مستعيدًا موقعه كوسيط بين الحكومات وشركات التكنولوجيا والمؤسسات الدولية.
بلير الاستراتيجي الجديد
لم يعد بلير السياسي الذي يسوّغ الحروب بشعارات الديمقراطية و«التحرير»، بل بات يتحدث بلغة الكفاءة والذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات. تحوّله ليس شكلياً فحسب، بل يعكس محاولةً لمواكبة التحوّل العالمي نحو أنظمة الحكم الرقمي القائمة على المراقبة والتحكم. في عالمٍ تحكمه الحروب والثورات الرقمية، يسعى بلير إلى ترسيخ نموذج جديد من السلطة: سلطة تكنوقراطية مركزية وبراغماتية تُعيد النظر في مفهوم الديمقراطية ذاته.
عودة بلير إلى الواجهة ليست مجرد حدثٍ شخصي، بل جزء من مشروع أوسع لإعادة تشكيل النظام العالمي — نظام لا تُقرّره البرلمانات المنتخبة، بل تُديره شبكات البيانات وأنظمة المراقبة والبنى التحتية الخوارزمية التي تحدد، بصمتٍ ودقّة، مصير الأمم.
تحوّل «معهد بلير للتغيير العالمي» منذ تأسيسه عام 2016 إلى مركز نفوذ دولي يضم أكثر من 900 موظف يعملون في أكثر من 40 دولة، يقدم المشورة للحكومات حول الحوكمة، التنمية، والرقمنة، مع تركيز خاص على أفريقيا والشرق الأوسط. غير أن المعهد تعرّض لانتقادات بسبب تعامله مع أنظمة استبدادية وحصوله على تمويلات مثيرة للجدل، من بينها 9 ملايين جنيه إسترليني من السعودية عام 2018. هذه الشراكات فتحت لبلير قنوات مباشرة مع عدد من القادة العرب، وعلى رأسهم ولي العهد السعودي محمد بن سلمان.
الذكاء الاصطناعي وحوكمة البيانات
رغم ابتعاده عن السياسة الانتخابية، فقد حوّل «بلير» معهدَه إلى منصة استراتيجية للترويج لنموذج جديد من الحكم القائم على الذكاء الاصطناعي وإدارة البيانات.
في تقرير بعنوان «الحكم في عصر الذكاء الاصطناعي: بناء المكتبة الوطنية للبيانات البريطانية»، دعا المعهد إلى إنشاء قاعدة بيانات وطنية موحدة تجمع كل المعلومات العامة في المملكة المتحدة، بهدف «زيادة الكفاءة الحكومية». غير أن منتقدين يرون في المشروع خطوة نحو تركيز السلطة في يد من يملكون البيانات.
يقف خلف هذه الرؤية «لاري إليسون»، مؤسس شركة «أوراكل» وأحد أغنى رجال العالم، الذي تبرع — وفق تسريبات «ويكيليكس» — بأكثر من 257 مليون جنيه إسترليني للمعهد منذ عام 2021، ما سمح له بالتوسع عالمياً. وأثارت تلك التسريبات شبهاتٍ حول احتمال استفادة «أوراكل» من نفوذ المعهد في إصلاح نظام الصحة الوطني البريطاني (NHS)، خصوصاً ضمن برنامج «ستارغيت».
Larry Ellison uses the Tony Blair Institute to control the NHS and Britain’s most sensitive health data.
— WikiLeaks (@wikileaks) September 27, 2025
“When it comes to tech policy, TBI’s role is to go to developing economies and sell them Larry Ellison’s gear. Oracle and TBI are inseparable.”
Since 2021, Ellison’s… pic.twitter.com/EOf6Yq1bDq
رغم أن بلير لا يتقاضى أجراً مباشراً، فإن فريقه يضم مستشارين سابقين من «ماكينزي» ومديرين تنفيذيين من كبرى شركات التكنولوجيا برواتب تتجاوز مليون دولار سنوياً. ورغم تقديمه كـ«مركز تفكير»، فإن المعهد يعمل فعلياً كـ شركة استشارات دولية تضع استراتيجيات رقمية للحكومات وتدفع نحو دمج القطاعين العام والخاص في مشاريع الذكاء الاصطناعي.
وفي القمة العالمية للحكومات في دبي في فبراير الماضي، دعا إليسون الحكومات إلى «توحيد كل البيانات الوطنية لتغذية أنظمة الذكاء الاصطناعي» — وهي الفكرة ذاتها التي يروّج لها معهد بلير. الرؤية المشتركة واضحة: دولٌ تحكمها الخوارزميات، تُقلّص الخطأ البشري باسم الكفاءة، وتحوّل الإدارة العامة إلى آلة حسابية دائمة التشغيل.
في هذا النموذج، تحل التكنولوجيا محل النقاش السياسي، وتصبح الشرعية السياسية مرتبطة بقدرة النظام على معالجة البيانات، لا بتمثيل الإرادة الشعبية.
الدولة الخوارزمية وخطر المراقبة الشاملة
يحذر مراقبون من أن هذا التوجه قد يؤدي إلى تركّز غير مسبوق للسلطة: دولة تعرف وتتابع وتقرر عبر خوارزميات لا تُرى. باسم الكفاءة، قد تصبح الخصوصية ترفاً، والحرية مجرد متغير قابل للتحسين.
يتحدث البعض عن «تحديث المراقبة» — أي تطبيع السيطرة الرقمية في الحياة اليومية. في هذا الإطار، ينقلب جوهر الديمقراطية: لم يعد المواطن من يراقب السلطة، بل السلطة هي من تراقب المواطن.
يزيد من غموض المشهد تشابك علاقات معهد بلير مع حكومات ديمقراطية واستبدادية على حد سواء، وتمويله من شركات التكنولوجيا العملاقة. وهكذا يتحول بلير، الذي كان رمز «الطريق الثالث» في السياسة، إلى حامل راية «الطريق الثالث الرقمي»: مشروع سياسي يستبدل النقاش العام بـ«حساب رياضي»، ويستعيض عن المداولات الديمقراطية بـ«التحليل الآلي».
النتيجة: وعد بالكفاءة يخفي نظاماً للمراقبة والسيطرة، حيث تتسلل الخوارزميات إلى قلب القرار السياسي لتعيد تشكيل علاقة المواطن بالدولة.
التقارب مع ترامب وإعادة إعمار غزة
بالتوازي مع نشاطه التكنولوجي، تقرّب بلير خلال العقد الأخير من إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب، خاصة عبر جارد كوشنر، صهر الرئيس ومستشاره لشؤون الشرق الأوسط.
وتشير تقارير دولية إلى أن بلير قد يتولى دوراً محوريا في خطط إعادة إعمار قطاع غزة، رغم اعتراض حركة حماس. وكان ترامب قد أعلن عن إنشاء «مجلس دولي للسلام» لتولي إدارة مؤقتة للقطاع، وورد اسم بلير كأحد أبرز الأعضاء المقترحين إلى جانب الرئيس الأمريكي السابق نفسه.
هذا التطور لا يُعد مفاجئاً، إذ يعمل بلير منذ أكثر من عام، عبر معهده، على مشروعات لإدارة وإعادة إعمار غزة بالتنسيق مع كوشنر.
بلير، الذي شغل سابقاً منصب المبعوث الخاص للرباعية الدولية إلى الشرق الأوسط لمدة ثمانية أعوام، لم ينجح في تحريك عملية السلام، وتعرض آنذاك لانتقادات حادة بسبب تقاربه مع المواقف الإسرائيلية. ومع ذلك، فإن خبرته الدبلوماسية وشبكة علاقاته تظل أوراقاً رابحة في يد إدارة ترامب.
اليوم، يرى بلير في ملف غزة فرصة للعودة إلى المشهد العالمي، ولكن من بوابة «الحوكمة الرقمية»: إعادة الإعمار عبر البنى التحتية المتصلة، وأنظمة تتبع المساعدات، والمراقبة الأمنية، والهوية الرقمية للسكان.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق