غير أنّ أقل من عامين على انتخابه، يجد الرئيس الأرجنتيني نفسه يواجه أزمة اقتصادية جديدة، ويصطدم بواقع إخفاق ما وصفه بـ“الثورة التحررية”. فَـ «ميلي»، الاقتصادي المتشدِّد في نهجه النيوليبرالي، والذي صعد إلى السلطة بصفته “المنقذ المناهض للمؤسسة”، كان قد وعد بـ«تفكيك الدولة»، وإلغاء البيروقراطية، وإطلاق حُرِّية السُّوق بلا قيود.
وفي إطار هذا التوجه، أصدر ما يعرف بـ المرسوم 70/2023 أو “الميغادكريتو”، الذي منح حكومته صلاحيات استثنائية للتشريع في حالات الطوارئ، ممهِّدًا الطريق لإلغاء عشرات القوانين الاجتماعية، وتحرير قطاعات أساسية مثل الإيجارات، والرعاية الصحية، والتجارة الخارجية، وحماية البيئة. وكانت النتيجة فوضى اقتصادية وتشريعية غير مسبوقة.
ما وُصف آنذاك بـ“العلاج الصادم” لإنقاذ الاقتصاد، تحوّل سريعا إلى تجربة اجتماعية قاسية. ففي غضون أشهر، جُمِّدت رواتب القطاع العام، وأُلغيت إعانات الطاقة، وتَقلَّصت برامج الرعاية الاجتماعية. ورغم تراجع معدل التضخُّم مقارنة بذروته القياسية عام 2023 حين بلغ %211.4، إلَّا أنه لا يزال ينهش دخول المواطنين، فيما تجاوز العجز في الربع الثاني من عام 2025 ثلاثة مليارات دولار، مدفوعًا بتضخُّم كلفة خدمة الدِّين العام.
أمَّا أسعار السلع الأساسية فترتفع أسبوعا بعد أخر، بينما يواصل «البيسو» الأرجنتيني انهياره في الأسواق. ومع تفاقم الأوضاع، تعاني الطبقات الوسطى من الضرائب غير المباشرة وتراجع الخدمات العامة، في حين تغرق الفئات الشعبية في الفقر المدقع.
وفي الأشهر الأخيرة، عادت شوارع «بوينس آيرس» و «قرطبة» إلى مشاهد التظاهر والاحتجاج، حيث نزلت النقابات والحركات الاجتماعية إلى الميادين للتنديد بما تصفه بـ«ديكتاتورية السُّوق».
ورغم الدَّعم الأمريكي الطارئ الذي تَمثَّل في حزمة مالية بقيمة 20 مليار دولار لإنقاذ الحكومة الأرجنتينية من الانهيار، فإنَّ السياسات الليبرتارية لِـ «ميلي» لا تزال تثير انقسامًا داخليًا حادًا، وسط تساؤلات حول مدى قدرة “الأسود” التي أراد إيقاظها على الصمود أمام الواقع الاقتصادي المنهَك.
تعيش الأرجنتين مفارقة قاسية: فهي أسيرة حكومة ترفع شعار الحرية الاقتصادية، لكنها في الواقع تفرض إجراءات قسرية أَلغت الضمانات الاجتماعية والحقوق العمالية التي حمت الأجيال السابقة. فقد قدَّم الرئيس الشعبوي «خافيير ميلي» نفسه كـ«منقذ من طبقة الفساد السياسي» المعروفة محلياً بـ«الطغمة»، لكنَّه انتهى، كما يقول معارضوه، إلى الحكم لمصلحة القوى المالية التي كان يهاجمها في حملته الانتخابية، والتي أصبحت اليوم أبرز داعميه.
في قلب الأزمة تكمن معضلة ميزان المدفوعات: فخلال السنوات الثلاث المقبلة، يتوجَّب على الأرجنتين سداد ديون خارجية تتجاوز 45 مليار دولار، منها 15 مليارًا مستحقَّة لصندوق النقد الدولي.
وفي هذا السياق، من المقرَّر أن يلتقي الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» نظيره الأرجنتيني «ميلي» في 14 أكتوبر الجاري، بالتزامن مع اجتماعات البنك الدولي وصندوق النقد الدولي في واشنطن. كما تستعد الأرجنتين في 26 أكتوبر لإجراء الانتخابات التشريعية النصفية، التي يسعى فيها حزب «ميلي» اليميني إلى تعزيز تمثيله البرلماني وتوسيع نفوذه السياسي.
وأمام خطر الانهيار المالي والتخلُّف عن السداد مجدَّدًا، تدخَّلت واشنطن في عملية إنقاذ مثيرة للجدل عبر خط ائتمان بقيمة 20 مليار دولار مخصَّص لدعم احتياطات البنك المركزي الأرجنتيني واستقرار العملة المحلية. وقد رحَّب «ميلي» بهذه الخطوة واصفًا إيَّاها بأنَّها «تصويت بالثِّقة من الغرب».
لكن خلف هذه المبادرة، التي تحمل توقيع وزير الخزانة الأمريكي «اسكوت بيسنت» – أحد أقرب المقرَّبين من «ترامب» وشخصية نافذة في عالم المال – تكمن شبكة مصالح معقَّدة تربط السياسة بالتمويل الدولي. وتشير مصادر اقتصادية إلى أنَّ الخطة جرى دفعها من قبل «روب سيترون»، الملياردير ومؤسس صندوق Discovery Capital، وصديق «بيسنت» منذ أيام عملهما المشترك مع المستثمر الشهير «جورج سوروس».
هذه العلاقة القديمة التي تشكَّلت عبر عقود من الاستثمارات والمضاربات المالية، تعود اليوم لتُلقي بظلالها على الاقتصاد الأرجنتيني. فَـ «سيترون» يُعدُّ من أكبر المستثمرين في السندات الأرجنتينية، وعندما بدأت سياسات «ميلي» تهتز وانخفض «البيسو» بشدَّة، واجه خطر خسائر بمليارات الدولارات. ومن هنا، تقول التقارير، جاء الضغط على «بيسنت» لدفع وزارة الخزانة إلى التحرُّك وإنقاذ السُّوق.
وبعد أسابيع قليلة، أعلنت واشنطن عن الخط الائتماني الضَّخم، لتشهد الأسواق ارتدادًا فوريًا: إذ ارتفعت السندات الأرجنتينية، التي كانت تنهار، بنسبة تصل إلى %20 في يوم واحد، محقِّقةً أرباحًا طائلة لحامليها، وبينهم «سيترون» وعدة صناديق مالية مقرَّبة من «ترامب».
ورغم اتِّهامات تضارب المصالح، نفى «بيسنت» أي شُبهة، مؤكِّدًا على أنَّ الهدف من الخطوة هو «دعم استقرار أحد حلفاء الغرب» ومنع سقوط الأرجنتين في «دائرة النفوذ الصيني». غير أنَّ الشكوك لا تزال قائمةً، إذ يرى مراقبون أنَّ خطة الإنقاذ الأمريكية بدت أقرب إلى عملية إنقاذ لمستثمرين نافذين من كونها مبادرة تضامن اقتصادي.
وما يزيد الجدل أنَّ الخُطَّة لا تتضمَّن مساعدات بلا مقابل، بل شروطًا قاسيةً: خصخصة سريعة للمؤسَّسات العامَّة، ومزيدًا من خفض الإنفاق الحكومي، وفتحاً كاملًا أمام رأس المال الأجنبي. وبذلك، تجد ب«وينس آيرس» نفسها مقيَّدةً اقتصاديًا وسياسيًا، فيما يزداد اعتمادها على واشنطن إلى مستويات غير مسبوقة.
لم تمنح خطة الإنقاذ الأمريكية الرئيس الأرجنتيني «خافيير ميلي» سوى فترة تنفُّس قصيرة، إذ لا تزال الأوضاع الاقتصادية هشَّة للغاية، فيما تتواصل الانهيارات في القطاع الصناعي، ويستقر معدل البطالة عند %7.6 في الربع الثاني من عام 2025.
ورغم خروج الاقتصاد الأرجنتيني فنِّيًا من حالة الركود، فإنَّ الانتعاش الموعود لا يزال بعيد المنال، وسط إغلاق آلاف الشركات الصغيرة منذ مطلع عام 2024 وتراجع حاد في مستويات الاستهلاك. ويعاني سوق العمل من انكماش إنتاجي واضح، بينما أدَّت عمليات خفض الدعم الحكومي إلى أزمة طاقة خانقة في مقاطعات الجنوب، وارتفاع مستمر في تكاليف النقل وأسعار المواد الغذائية. وتشير المؤشِّرات الاقتصادية إلى أنَّ التحسُّن الحقيقي لن يتحقَّق قبل عام 2026.
على الصعيد السياسي، يبدو «ميلي» أكثر عزلة من أي وقت مضى. فـ «الكونغرس» يعرقل العديد من مراسيمه الاقتصادية، وحُكَّام الأقاليم يرفضون سياسة التقشُّف الحاد، فيما تنظم النقابات إضرابات عامَّة متكرِّرة احتجاجًا على ما تصفه بـ“تدمير الحقوق الاجتماعية”. أمَّا القاعدة الانتخابية التي أوصلته إلى السُّلطة، فقد بدأت تشعر بـ خيبة أمل متزايدة من وعوده التي لم تتحقَّق.
أمَّا الدَّعم الأمريكي، الذي حاول «ميلي» تصويره كدليل على “قوة واستقلالية”، فيبدو الآن فَخًّا سياسيًا مُحكَمًا: فالحكومة التي تَدَّعي السيادة، لكنَّها تعتمد على قرض خارجي للبقاء، تفقد عمليًا استقلالها الاقتصادي والسياسي.
دُوَليًا، باتت الأرجنتين نموذجًا مثيرًا للجدل. فبالنسبة لواشنطن، دعم «ميلي» يعني الدفاع عن نموذج اقتصادي يضعف الدولة ويخصخص كل شيء، حتّى وإن كان هذا النموذج يُولِّد الجوع والبطالة والاضطرابات الاجتماعية.
أمَّا بالنسبة للغرب عمومًا، فقد تحوَّلت التجربة الأرجنتينية إلى اختبار حقيقي: إلى أي مدى يمكن دعم تجربة نيوليبرالية متطرِّفة تُنتج الفقر والتوتُّر؟
وراء الشعارات التي تتحدَّث عن “حرية السُّوق” و“الإصلاحات الهيكلية”، تبرز حقيقة أكثر مرارة: فقد أصبحت الأرجنتين مختبرًا للنيوليبرالية المتوحِّشة، حيث تُدار “اليد الخفية للسُّوق” من قبل مصالح مالية واضحة ومترابطة، تدفع البلاد إلى دوامة متصاعدة من التبعية الاقتصادية والتفقير الاجتماعي.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق