على عكس الأرباح العادية التي تُمثِّل العائد الطبيعي الناتج عن النشاط الاقتصادي المعتاد للمؤسَّسة في ظروف مستقرَّة، تُعرَّف الأرباح الاستثنائية (Extra-profitti) بأنَّها مكاسب مؤقَّتة واستثنائية تفوق المتوسِّط التاريخي أو التوقُّعات في أوضاع السوق العادية.
فهي أرباح ناتجة عن ظروف ظرفية خارجية لا ترتبط بالكفاءة التشغيلية أو بالإنتاجية الحقيقية. ومن هنا، فهي ليست فئة قانونية محدَّدة، بل مفهوم اقتصادي يشير إلى الأرباح غير “الطبيعية” التي تنشأ من عوامل مؤقَّتة.
وفي حالة القطاع المصرفي، تعني الأرباح الاستثنائية تلك الزيادات الكبيرة التي تُحقِّقها البنوك في فترات محددة، عندما ترتفع أسعار الفائدة على القروض والرَّهن العقاري بسرعة، بينما تبقى عوائد الودائع منخفضة، مما يُوسِّع ما يُعرَف بـ«هامش الفائدة» (Margine di Interesse).
كيف وُلِدت الأرباح الاستثنائية للبنوك؟
يشرح الخبير الاقتصادي والكاتب «ماوريتسيو ميلانو» (Maurizio Milano) أنَّ المقصود بـ«الأرباح الاستثنائية للمصارف» هو الزيادة غير العادية في الأرباح الصافية للبنوك، ولا سيما منذ عامي 2022 و2023، حين ارتفعت أسعار الفائدة على القروض بسرعة كبيرة، في حين تأخَّرت معدَّلات الفائدة على الودائع عن الارتفاع، وبشكل جزئي فقط. هذه الفجوة الزمنية في انتقال أسعار الفائدة هي التي أطلقت مرحلة الأرباح القياسية.
هذا المسار – من الارتفاع الحاد إلى التراجع – حدَّد دورة هوامش الفائدة: توسَّعت في 2023 ثم بدأت بالانحسار في 2024–2025. ويَعتبر «ميلانو» هذه المرحلة «فترة استثنائية من توسُّع هامش الفائدة لصالح البنوك، بعد سنوات من معدلات منخفضة بشكل غير طبيعي»، مشيرًا إلى أنَّ الوضع عاد اليوم إلى طبيعته مع تقلُّص الهوامش تدريجيًا.
![]() |
يمثل الخط الأصفر معدلات الفائدة المتوسطـة على القروض التي تطلبها البنوك من عملائها، في حين يشير الخط الأزرق إلى معدلات الفائدة التي تمنحها البنوك لأصحاب الودائع. أما الفرق بين المعدلين، فيُجسّد ما يُعرف بـالأرباح الاستثنائية أو الهامش الإضافي الذي تحققه البنوك من الفارق بين ما تتقاضاه على الإقراض وما تدفعه على الادخار.
هامش الفائدة وآلية انتقال الأسعار
أدّى ارتفاع أسعار الفائدة الرسمية بين عامي 2022 و2023 إلى زيادة فورية في الفوائد على القروض، ما رفع إيرادات البنوك. في المقابل، ظلَّت عوائد الودائع شبه ثابتة بسبب بطء تفاعل الحسابات الجارية وضعف المنافسة في السُّوق المصرفية للأفراد.
ويقول «ميلانو»: «لقد كانت البنوك أسرع في رفع الفائدة على القروض والرهن العقاري مما كانت عليه في رفع العوائد على الودائع، مستفيدةً من توسُّع سريع وملحوظ في هامش الفائدة».
وخلال المرحلة السَّابقة من أسعار الفائدة السلبية، كانت الصورة معكوسة تمامًا: فقد كانت البنوك تدفع فوائد سلبية لإيداع احتياطاتها لدى البنك المركزي الأوروبي بينما تحافظ على عوائد شبه صفرية للزبائن، ما جعل هامش الفائدة سلبيًا في بعض الفترات.
كما أسهمت الرقمنة، وخفض التكاليف التشغيلية، وتراجع مخصَّصات الديون المتعثِّرة في تعزيز النتائج المالية ورفع معدل العائد على حقوق الملكية (ROE) خلال عامي 2023 و2024.
![]() |
| خلال الأعوام الأربعة الماضية، تضاعف الفارق بين معدلات الفائدة على القروض وتلك الممنوحة لأصحاب الحسابات الجارية أكثر من مرتين، مما أتاح للبنوك تحقيق أرباح استثنائية تتجاوز 40 مليار يورو سنويًا. |
حجم الأرباح الاستثنائية
شهد عام 2023 قفزة تاريخية في أرباح القطاع المصرفي الإيطالي، إذ تجاوزت الأرباح الصافية المجمعة 40 مليار يورو، مع تقديرات تقارب 43 مليارًا، في رقم غير مسبوق خلال العقود الأخيرة.
وفي عام 2024، استمرَّت الربحية المرتفعة مع وصول الأرباح الإجمالية إلى 46–47 مليار يورو، منها 23.6 مليارًا حصدتها خمس مؤسسات مصرفية كبرى فقط.
ويؤكِّد «ميلانو» على أنَّ «ارتفاع أسعار الفائدة انعكس إيجابًا على هوامش الفائدة، خصوصًا في إيطاليا، حيث تنتشر القروض ذات الفائدة المتغيرة»، لكنه يضيف أن «هذا الأثر بدأ يتراجع مع تخفيضات البنك المركزي الأوروبي منذ صيف 2024»، ما يجعل هذه الأرباح مؤقَّتة بطبيعتها.
تدخل الحكومة: خطوة رمزيةتدخَّلت الحكومة الإيطالية للمرة الأولى في صيف 2023 بفرض ضريبة استثنائية على الزيادة في هامش الفائدة بنسبة %40، مع سقف أقصى يعادل %0.1 من الأصول المرجّحة بالمخاطر.
لكن إمكانية تحويل الضريبة إلى احتياطي غير قابل للتوزيع قلَّصت العائدات الفعلية للخزينة إلى حدٍّ كبيرٍ، إذ لم تتجاوز 700 مليون يورو مقابل تقديرات أوَّلية فاقت 2.5 مليارًا.
ويرى «ميلانو» أن اللجوء إلى ضرائب بأثر رجعي لا يُعد حلاً حقيقيًا، بل «انحرافًا عن الأولويات الحقيقية، وهي إصلاح الإنفاق العام والحد من الهدر»، في بلد تبلغ فيه الضريبة الإجمالية نحو 43% من الناتج المحلي الإجمالي.
موازنة 2026: روح الضريبة من دون اسمها
لم تُعِد موازنة 2026 فرض «ضريبة الأرباح الاستثنائية» رسميًا، لكنها احتفظت بروحها من خلال رفع مؤقت لضريبة الشركات المحلية (IRAP) على البنوك وشركات التأمين، إلى جانب قيود على بعض الاعتمادات الضريبية وآليات لتحرير الاحتياطيات القديمة مقابل مساهمة تُقدّر بين 4.4 و4.5 مليارات يورو. ومع ذلك، فإن الطابع الطوعي والإجرائي لهذه الإجراءات يجعل العائدات الفعلية غير مضمونة.
الانعكاسات على الائتمان والمنافسة
في سوق مصرفية شديدة التركّز مثل إيطاليا، يُمكن أن تُحمَّل التكاليف الاستثنائية إلى الأسر والشركات عبر رفع أسعار الفائدة على القروض أو خفض عوائد الودائع، ممَّا يُقلِّص العرض الائتماني.
وتُظهر التجارب الأوروبية أنَّ مثل هذه الضرائب المؤقَّتة غالبًا ما تُحقِّق عائدات أقل من المتوقَّع وتدفع المؤسَّسات إلى إعادة هيكلة ميزانياتها لتقليل الأثَر، من دون تأثير ملموس على توزيع الدخل، لكن مع انعكاسات سلبية على النشاط الائتماني.
ويقول «ميلانو»: «قد تأتي النوايا الحسنة بنتائج عكسية، إذ قد تؤدي إلى تباطؤ الإقراض في مرحلة حساسة من الدورة الاقتصادية»، مضيفًا أن عدم وضوح تعريف “الأرباح الاستثنائية” قانونيًا قد يفتح الباب أمام نزاعات قضائية وتنظيمية.
تمويل الاقتصاد: جوهر الأزمة
يلاحظ «ميلانو» أنَّ الجدل حول الأرباح الاستثنائية يكشف عن مشكلة أعمق، هي تمويل الاقتصاد أو “الماليَنة” – أي الانفصال بين القطاع المالي والاقتصاد الحقيقي. فالسياسات النقدية الأوروبية الأخيرة دعمت الأصول المالية على حساب الإنتاج، بينما قوَّض التضخُّم القوة الشرائية للأُسَر، ما فاقم عدم المساواة.
رغم الجدل حول العدالة، واصلت البنوك توزيع أرباح ضخمة وإعادة شراء أسهمها. ووفقًا لبنك إيطاليا، خصَّصت البنوك الإيطالية الكُبرى خلال عامي 2023–2024 أكثر من 18 مليار يورو من السيولة لهذه العمليات، وهو مبلغ يفوق إجمالي الضريبة الاستثنائية المفروضة.
خاتمة: ضريبة بلا إصلاح
تبدو موازنة 2026 في النهاية ردًّا محدودًا على مشكلة هيكلية. فـالضريبة المؤقَّتة على الأرباح الاستثنائية قد تكسب تأييدًا سياسيًا، لكنَّها لا تمسُّ جذور الاختلال: ضعف المنافسة، جمود عوائد الودائع، ونظام ضريبي غير متوازن.
ويُحذِّر «ميلانو» من أنَّ النوايا الحسنة قد تنتهي بنتائج معاكسة، إذ يمكن أن تُقلِّص الإقراض في الوقت الذي يحتاج فيه الاقتصاد الحقيقي إلى دعم.
في الخلاصة، تُمثِّل الضريبة على الأرباح الاستثنائية إجراءً رمزيًا أكثر منه إصلاحًا فعليًا:
-
ضعيفة التأثير على النظام المالي،
-
محدودة الجدوى في تحقيق العدالة،
-
وغامضة النتيجة في تحسين المالية العامة.





ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق