![]() |
| المرشحان للانتخابات الرئاسية في تشيلي، جانيت جارا (يمينًا) وخوسيه أنطونيو كاست (صورة أرشيفية). |
ويُذكر أن استطلاعات الرأي في الجولة الأولى لم تَثبُت دقَّتها بالكامل، إذ قلَّلت إلى حد كبير من شأن المرشَّح الثالث فرانكو باريسـي، وهو شعبوي حصد قرابة 20 في المئة من الأصوات. ويسهم التصويت الإلزامي، الذي يفرض غرامة على الممتنعين، في دفع شريحة واسعة من المواطنين غير المهتمين بالسياسة إلى المشاركة، ما يجعل النتائج أكثر صعوبة في التوقُّع. ومع ذلك، فإن خسارة كاست ستُعد مفاجأة كبيرة. ففي الجولة الأولى حصلت «جارا» على 27 في المئة من الأصوات، مقابل 24 في المئة لِـ «كاست»، الذي يُتوقَّع أن ينال بسهولة دعم المرشَّحين الأخرين من اليمين: «إيفلين ماتّيي» المعتدلة (12 في المئة)، و «يوهانس كايزر» المتطرف (14 في المئة).
وعلى عكس ما كان عليه الحال قبل أربع سنوات، تَغيَّرت القضايا المحورية في النقاش العام. فبعد أن كانت تدور حول حقوق الأقليات والعدالة الاجتماعية والمعاشات التقاعدية والرعاية الصحية، باتت تتركَّز اليوم على الأمن، ومكافحة الجريمة، والهجرة، والتنمية الاقتصادية. وهي ملفات تصدَّرت حملة «كاست»، الذي حرص في المقابل على تجنُّب القضايا التي قد تُضعف شعبيته، مثل معارضته المطلقة للإجهاض وزواج المثليين، أو مقترحاته المتعلِّقة بالعفو عن المدانين بجرائم ارتُكبت خلال الدكتاتورية. وكانت هذه المواقف، إلى جانب كشف وكالة «أسوشيتد برس» عام 2021 عن انتماء والده للحزب النازي عام 1942، قد أثارت حينها موجة تعبئة واسعة ضده وأسهمت في فوز «بوريك».
وكما كتب الصحفي «باتريسيو فرنانديز» في صحيفة «إل باييس» الإسبانية، فإنَّ تشيلي، منذ عام 2010، تشهد في جميع الاستحقاقات ذات الخيار الثنائي فوز ما سمّاه «الموقف التفاعلي»، موضِّحًا أن «البلاد، منذ نحو 15 عامًا، لا تصوِّت لصالح شيء، بل ضدَّ شيء». وينطبق ذلك أيضًا على الاستفتاءين اللَّذين أُجريا لإقرار دستور جديد، أحدهما ذو توجُّه يساري والأخر يميني، وكلاهما رُفض. وعلى مدى عشرين عامًا، فاز في الانتخابات الرئاسية دائمًا المرشح المناقض سياسيًا للرئيس المنتهية ولايته، في ظاهرة تُعرف باسم «البندول التشيلي»، وتعكس حالة عامَّة من السَّخط السياسي.
وفي هذه الجولة، يبدو أن الرفض موجَّه إلى الحكومة اليسارية الحالية. ففي عام 2021، استُقبل «بوريك» بتوقُّعات كبيرة، نظرًا إلى صغر سنه آنذاك (35 عامًا)، وزخم احتجاجات عام 2019 المعروفة باسم «الانفجار الاجتماعي»، وبرنامجه الإصلاحي الطموح. غير أنَّ شريحة واسعة من الناخبين ترى أنَّ كثيرًا من تلك التطلُّعات لم يَتحقَّق، رغم محاولة «جارا»، خلال الحملة الانتخابية، إبراز ما تَحقَّق من إنجازات، مثل إصلاح نظام التقاعد وتقليص ساعات العمل الأسبوعية، إضافة إلى التأكيد على أنَّ أوضاع البلاد الاقتصادية والأمنية ليست كارثية. إلَّا أنَّ المزاج العام للناخبين يظلُّ سلبيًا، ولا سيما إزاء مسألة الجريمة. فرغم أنَّ تشيلي لا تزال من أقل دول أميركا اللاتينية عنفًا، فإنَّ تنامي نفوذ جماعات إجرامية عابرة للحدود أدَّى إلى تدهور الوضع الأمني وإثارة مخاوف واسعة.
وبنى «كاست»، مؤسِّس وزعيم الحزب الجمهوري، حملته الانتخابية الثالثة على هذه القضايا، بعد أن فشل في بلوغ جولة الإعادة عام 2017. واقترح حلولًا جذرية، بينها ترحيل فوري لأكثر من 300 ألف مهاجر غير نظامي، وبناء سجون جديدة، ومنح الشرطة «صلاحيات واسعة». وعلى الصعيد الاقتصادي، يدافع عن نموذج ليبرالي يقوم على خفض الضرائب والإنفاق العام، مع جعل المبادرة الخاصة محور النشاط الاقتصادي.
وتُذكّر وسائل إعلام وشخصيات يسارية باستمرار بأنَّ «كاست» سيكون، في حال فوزه، أوَّل رئيس صوَّت لصالح استمرار دكتاتورية «بينوشيه» في استفتاء عام 1988، الذي انتهى بانتصار خيار «لا» وفتح الطريق أمام الانتقال الديمقراطي. وكان «كاست» قد دافع في حملاته السابقة عن صلاته بذلك الماضي، بل قال إن «بينوشيه»، لو كان حيًا، لصوَّت له. غير أنه تَجنَّب هذا الملف في الأشهر الأخيرة، مُفضِّلًا التركيز على علاقاته الشخصية مع قادة اليمين العالمي، من بينهم رئيسة الوزراء الإيطالية «جورجيا ميلوني».
وفي حال صدقت استطلاعات الرأي وفاز «كاست»، فسيكون عليه الحكم في ظل برلمان لا يتمتَّع فيه أي طرف بأغلبية حاسمة. فقد أُجريت الانتخابات التشريعية بالتزامن مع الجولة الأولى من الرئاسيات، ويشهد مجلس الشيوخ توازنًا شبه كامل بين اليمين واليسار، فيما سيحتاج «كاست» في مجلس النواب إلى دعم التيار اليميني المعتدل، ولا سيما تحالف «تشيلي فاموس». ويؤكِّد «كاست» على أنَّه أَعدَّ خطَّة للأيام التسعين الأولى من ولايته، تحمل اسم «تحدي 90»، بهدف «إحداث تغيير جذري» في البلاد، خصوصًا عبر المراسيم التنفيذية، مستلهمًا تجارب «دونالد ترامب» في الولايات المتحدة و «خافيير ميلي» في الأرجنتين.
