وتعود أولى الحالات إلى 26 نوفمبر الماضي، حين عُثر على جثتي خنزيرين بريين في بلدة «بيّاتيرا»، الواقعة قرب منتزه «كولسيرولا» الطبيعي على أطراف مدينة برشلونة. وخلال الأسبوعين التاليين، وحتى إقرار العمل بحالة الطوارئ، ارتفع عدد الخنازير البرية المصابة إلى 13 حالة، ما دفع السلطات إلى إعلان الطوارئ وفرض حظر على صادرات لحوم الخنزير.
وعلى الفور، اعتمدت حكومة الإقليم، بالتنسيق مع «المفوضية الأوروبية»، إجراءات احترازية لمنع انتشار الفيروس خارج النطاق الجغرافي الذي سُجلت فيه الإصابات. وفرضت قيود على دخول المتنزهات الطبيعية والمناطق الحرجية والمراعي والأراضي الزراعية والمسارات الريفية خارج المناطق الحضرية في 91 بلدية، مع استثناء ممرات الوصول إلى المنازل. كما حُظر نقل قطعان الماشية خارج منطقة الخطر المرتفع، ومنع إدخال الخنازير المنزلية والمنتجات ذات الأصل الخنزيري إلى المنطقة، إضافة إلى تعليق أنشطة الصيد باستثناء ما يُعدّ ضروريا لمكافحة انتشار الفيروس.
وفي محيط المنطقة التي عُثر فيها على أول حالتين، تم تحديد نطاق مراقبة يمتد لمسافة 20 كيلومتراً ويشمل منتزه «كولسيرولا» الطبيعي، حيث أُطلقت عمليات تفتيش موسعة لرصد أي خنازير برية مصابة إضافية أو بقايا مواد غذائية ملوثة.
ويؤكد الخبراء أن الفيروس لا يشكّل خطرا على البشر ولا على الأنواع الحيوانية غير الخنزيرية، غير أنه يتمتع بقدرة عالية على العدوى، وقد تصل نسبة الوفيات في بعض الحالات إلى %100. وتتعدد طرق انتقاله، وتشمل المسارات الفموية والأنفية والجلدية وتحت الجلد وداخل الأوعية الدموية، فيما تتراوح فترة الحضانة بين ثلاثة و21 يوما. ورغم عدم تسجيل أي إصابات حتى الآن بين الخنازير المنزلية أو في المزارع، فإن انتقال الفيروس قد يحدث عبر التلامس المباشر بين الحيوانات، أو من خلال الأغذية، ووسائل النقل، والملابس، والطفيليات.
وعلى الرغم من أن الفيروس لا يهدد الصحة البشرية، فإن انتشاره بين الخنازير البرية ألحق أضرارا سريعة بالاقتصاد المرتبط بالقطاع. فقد أُوقفت صادرات منتجات لحم الخنزير إلى أكثر من 40 دولة، بينها روسيا والبرازيل والولايات المتحدة والمكسيك واليابان. في المقابل، واصلت الصين، أكبر مستورد للمنتجات الإسبانية المشتقة من لحم الخنزير، التزاماتها التجارية، مع فرض قيود تقتصر على المنتجات القادمة من محافظة «برشلونة». ويُذكر أنه في نوفمبر الماضي، وخلال زيارة العاهل الإسباني إلى بكين ولقائه الرئيس الصيني «شي جينبينغ»، كانت الصين قد وافقت على ثلاثة بروتوكولات جديدة لدعم قطاعي الصيد ولحوم الخنزير. وبلغت صادرات إسبانيا إلى الصين في عام 2024 نحو 540 ألف طن، بقيمة تجاوزت مليار يورو.
وقد انعكس تعليق الصادرات سريعاً على السوق المحلية، حيث شهدت أسعار لحم الخنزير بالجملة خلال أكثر من أسبوعين بقليل ثلاثة تراجعات حادة، لتصل في الساعات الأخيرة إلى 1.04 يورو للكيلوغرام. وتكبد قطاع تربية المواشي خسائر كبيرة، إذ تُقدَّر الخسائر المتوقعة الأسبوع المقبل بنحو 31 مليون يورو، تُضاف إلى 30 مليون يورو خُسرت منذ اكتشاف الخنازير البرية المصابة. كما طالت تداعيات الأزمة العاملين في القطاع، حيث جرى تعليق عقود عمل 458 موظفاً في مسالخ المنطقة من قبل شركة «غروبو خورخي» الأراجونية المتخصصة في الصناعات الغذائية.
ولا تزال أسباب انتشار الفيروس غير معروفة، إذ لم تصدر حتى الآن رواية رسمية، غير أن وزارة الزراعة أعلنت فتح تحقيق في هذا الشأن. وتشير معطيات أولية إلى أن أول جثة خنزير بري عُثر عليها كانت على بُعد 100 متر فقط من مركز الأبحاث IRTA-CReSA، الذي كان يعمل في الأيام الأخيرة على دراسة الفيروس. ومع ذلك، لا تستبعد السلطات فرضيات أخرى، من بينها احتمال انتقال العدوى عبر بقايا منتجات لحوم مصابة جرى التخلص منها كنفايات قادمة من الخارج بالقرب من منتزه «كولسيرولا» الطبيعي.
وفيما تُبرز هذه الأزمة حجم الخسائر الاقتصادية المحتملة في حال انتقال الوباء إلى مزارع التربية، يرى مراقبون أن جذور الأزمة لا تقتصر على انتشار الفيروس وحده. فقد شهدت كاتالونيا خلال السنوات الأخيرة توسعا غير مسبوق في إنتاج مشتقات «لحم الخنزير»، ضمن نموذج إنتاج مكثف يشبه الزراعة الأحادية. وبحسب «خافيير غوثمان»، مدير منظمة «العدالة الغذائية»، فإن الانهيار الحالي هو نتيجة سوق تهيمن عليه قلة من الشركات، ما جعل إقليماً بأكمله، بشريا وبيئيا، موجها نحو نشاط اقتصادي واحد. ويستند هذا النموذج إلى حلقة مفرغة، حيث ترتبط أنظمة إنتاج مكثفة ببعضها، كما هو الحال في زراعة الصويا والذرة المستخدمة علفاً لتربية الخنازير.
ويخلص التقرير إلى أن قطاع «لحم الخنزير»، الذي طالما شكّل مصدر فخر للمؤسسات الوطنية والأوروبية، أظهر هشاشة واضحة. ورغم أن الوضع لم يصل بعد إلى مرحلة كارثية، فإن الثقة الاقتصادية في هذا القطاع، الذي يُعد من رواد الصناعات الغذائية في أوروبا والعالم، بدأت تهتز بشكل ملموس.
