كان كلٌّ من «ميخائيل غورباتشوف» و «بوريس يلتسين» يعتقدان بصدق في وعود دمج روسيا داخل أوروبا والغرب. فالأول فكَّكَ «حلف وارسو» وتخلَّى عن الإمبراطورية السوفياتية، على أمل فتح الطريق أمام «أوروبا بلا تكتُّلات»، تقوم على التعاون والأمن الجماعي، فيما أسماه آنذاك «البيت الأوروبي المشترك». أمّا الثاني، فقد قَبِل بالاصطفاف مع القواعد الغربية، والإصلاحات المفروضة، والانفتاح الاقتصادي، مقتنِعًا بأنَّ روسيا ستُستقبَل شريكًا كامل الحقوق داخل المنظومة الغربية. غير أنَّ كليهما، بحسب هذا التصوُّر تعرَّضا للخديعة. فحيث كان «غورباتشوف» ينتظر إعادة تأسيس للنظام الأوروبي، رأى «حلف شمال الأطلسي» (الناتو) يتمدَّد شرقًا. وحيث كان «يلتسين» يأمل بالاندماج، حصد انهيارًا اجتماعيًا، ونهبًا اقتصاديًا، وتهميشًا جيوسياسيًا. الثقة التي منحتها «موسكو» لم تُحترَم، بل جرى استغلالها. وهكذا اكتشفت روسيا أنه لم تكن هناك «أوروبا جديدة»، بل انتصارٌ أحاديُّ الطرف يُدار، وأنَّها في هذه المعادلة لم تكن شريكًا، بل الضحية.
الوقائع:
في أواخر تسعينيات القرن الماضي وبدايات الألفية الجديدة، واجهت روسيا ما اعتبرته ضغطًا غربيًا متعدّد الأبعاد على مناطق نفوذها. فمن جهة، نفَّذ «حلف شمال الأطلسي» تدخلًا عسكريًا في يوغوسلافيا عام 1999 ضد السلطات الصربية في كوسوفو، من دون تفويض من مجلس الأمن الدولي، وهو ما فسًّرته «موسكو» على أنَّه عدوان على دولة ذات سيادة، ودليل على قدرة «الحلف» على تجاوز روسيا وتجاهلها في الشؤون الأوروبية.
وفي الوقت نفسه، ومنذ عام 1999، حافظ مسؤولون وسياسيون ودبلوماسيون أميركيون، عبر منظَّمات غير حكومية مثل «اللجنة الأميركية للسلام في الشيشان» (ACPC)، على اتصالات منتظمة مع ممثلين وقادة انفصاليين شيشانيين، رغم أن هذه الاتصالات لم تكن مصرَّحًا بها أو معترَفًا بها من قبل الاتحاد الروسي. وقد نظَّمت اللَّجنة، التي تأسَّست عام 1999، حتَّى أوائل العقد الأول من الألفية، نقاشات ومنشورات وحوارات غير رسمية (Track II) بين ممثلين روس وانفصاليين، فيما قادت منظَّمات أميركية أخرى، مثل «شبكة الدفاع عن الشيشان»، حملات ضغط وتوعية.
ومن وجهة نظر «موسكو»، مثَّلت هذه الاتِّصالات تدخُّلًا مباشِرًا في شأن داخلي روسي، ومنحت المتمرِّدين الشيشانيين شرعية رمزية، وعزَّزت الإحساس بتطويق روسيا.
وتزايد هذا القلق مع توسُّع «حلف شمال الأطلسي» شرقًا ابتداءً من عام 1999، بانضمام بولندا والمجر وجمهورية التشيك، ثم دول البلطيق ودول أخرى كانت سابقًا ضمن «حلف وارسو». وقد رأت روسيا في هذا التوسُّع ضغطًا عسكريًا واستراتيجيًا على حدودها، وتقليصًا لمجال نفوذها، وزيادة في هشاشتها الأمنية.
وبالتوازي، راقبت «موسكو» ما اعتبرته تدخُّلًا متناميًا من الولايات المتحدة و«الحلف الأطلسي» في الشأن الجورجي. فمنذ عام 1992 انضمَّت جورجيا إلى «مجلس التعاون الأطلسي»، ثم إلى برنامج «الشراكة من أجل السلام» عام 1994، وبدأت في مطلع الألفية الجديدة تكثيف المناورات العسكرية المشتركة والتعاون السياسي. وبعد «ثورة الورود» عام 2003، أعلنت جورجيا رسميًا طموحها للانضمام إلى «الحلف»، وأطلقت خطط عمل مشتركة، وعزَّزت علاقاتها مع واشنطن وبروكسل، وهو ما اعتبرته «موسكو» محاولة لزعزعة الاستقرار بشكل غير مباشر، وتدخُّلًا في مجال نفوذها في منطقة القوقاز.
بصورة عامة، رأت روسيا في هذه التطورات المتزامنة — تدخل «الناتو» في يوغوسلافيا، والاتصالات الأميركية غير المصرَّح بها مع المتمرِّدين الشيشانيين (1999–بداية الألفية)، وتوسُّع «الحلف» شرقًا، والتدخُّل في جورجيا — استراتيجية غربية متكاملة تهدف إلى كبح نفوذها وممارسة ضغط متزامن على أراضيها ومناطق مصالحها. ويُعزِّز هذا التصوُّر رفض الولايات المتحدة للمقترح الألماني القاضي بإقامة «أوروبا الأمم»، الذي كان من شأنه تمكين روسيا من المشاركة الكاملة في البناء الأوروبي مع احترام سيادة الدول، لصالح رؤية أخرى لأوروبا متمركزة حول «حلف شمال الأطلسي»، بهامش تأثير روسي محدود.
وبناءً عليه، ترى «موسكو» أنَّ مجموع هذه التطوُّرات العسكرية والدبلوماسية والاستراتيجية والسياسية يشكّل ضغطًا تراكميًا وعملية تهميش تدريجية، بما يُبرِّر، من وجهة نظرها، تشديد اليقظة واتِّخاذ مواقف وإجراءات صارمة للدفاع عن سيادتها وحماية مصالحها الإقليمية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق