قبل عشرة أعوام، كان «علاء ف. حمد عبد الكريم»، المعروف باسم «علاء فرج»، يدرس الهندسة في مدينة «بنغازي» (شرق ليبيا)، ويحلم بأن يصبح لاعب كرة قدم محترفًا في أوروبا. آنذاك، كانت الحرب الأهلية الليبية قد دخلت عامها الرابع، عقب سقوط نظام العقيد «معمر القذافي»، ما دفع آلاف الشبان الليبيين، إلى جانب مهاجرين من جنسيات متعددة، إلى ركوب البحر بحثًا عن طريق نحو إيطاليا.
كان «عبد الكريم» في العشرين من عمره عندما وصل إلى مدينة «كاتانيا» الإيطالية. اليوم يبلغ الثلاثين، وقد أمضى كل هذه السنوات في سجن بمدينة «باليرمو»، يقضي حكمًا نهائيًا بالسجن 30 عامًا بتهمة القتل المتعدد وتسهيل الهجرة غير النظامية بالاشتراك مع آخرين. واعتبرت السلطات القضائية الإيطالية أنه أحد ما يُعرف بـ«قادة القوارب» التي تم إنقاذها قبالة السواحل الصقلية في 15 أغسطس 2015، وكان على متنها 362 مهاجرًا، عُثر على 49 منهم موتى داخل عنبر القارب.
ويوم الاثنين، شمل الرئيس الإيطالي «سيرجو ماتاريلا» «عبد الكريم» بعفو رئاسي، إلى جانب أربعة مدانين آخرين. إلا أن العفو كان جزئيًا، إذ أسقط جزءًا من العقوبة فقط. ووفقًا لمحاميته، فإنَّ المدَّة المتبقِّية نظريًا تتجاوز تسع سنوات، لكنَّها قد تنخفض إلى نحو خمس سنوات مع احتساب تخفيض العقوبة لحسن السلوك. وهو حكم يقول «عبد الكريم» إنه صدر بحقه عن جريمة لم يرتكبها، كما يرى خبراء في شؤون الهجرة أن هذه التهمة لا تطال فعليًا منظمي شبكات الاتجار بالبشر.
في أغسطس 2015، قرر «عبد الكريم» مع صديقيه «طارق العمامي جمعة» و «عبد الرحمن عبد المنصف» مغادرة «بنغازي» في محاولة للوصول إلى أوروبا. وكان الثلاثة لاعبي كرة قدم محترفين في ليبيا، ويحلمون بمواصلة مسيرتهم الرياضية في ألمانيا، فيما كان «عبد الكريم» يأمل أيضًا في دراسة الهندسة في سويسرا. وبحسب الباحثة «كلوديا غاتسيني»، المتخصصة في الشأن الليبي لدى منظمة «مجموعة الأزمات الدولية»، فقد كان الدوري الليبي متوقفًا آنذاك بسبب المواجهات العنيفة بين قوات المشير «خليفة حفتر»، المسيطرة على شرق البلاد، ومجموعات مسلَّحة في الغرب. وباختصار، كان الثلاثة يسعون إلى الفرار من العنف والبحث عن فرص جديدة.
توجَّهوا إلى طرابلس على أمل الحصول على تأشيرة، لكن سرعان ما أدركوا أنَّ الوصول القانوني إلى أوروبا شبه مستحيل، كما هو حال الغالبية العظمى من المهاجرين الذين يحاولون العبور إلى إيطاليا بحرًا. عندها، اضطرُّوا إلى دفع المال لمهربي البشر للإبحار من سواحل مدينة «زوارة»، غرب «طرابلس»، على متن قارب خشبي يقل أكثر من 300 شخص. وفي مساء 14 أغسطس، صعد «عبد الكريم» ورفيقاه إلى القارب بين آخر الركاب، واستقرّوا في عنبره السفلي. انطلقت الرحلة قرابة منتصف اللَّيل، وقبيل الفجر رُصد القارب قبالة السواحل الصقلية، قبل أن تصل إليه بعد ساعات سفينة تابعة للبحرية الإيطالية.
وخلال عملية الإنقاذ، اكتشفت السُّلطات وجود عشرات الأشخاص داخل العنبر. وأظهرت الفحوص اللاحقة أن سبب الوفاة كان الاختناق جراء استنشاق عوادم المحرِّك داخل مساحة ضيقة، وهي حالة شائعة على طريق الهجرة عبر وسط البحر المتوسِّط. ونُقل الضحايا والناجون الـ313 إلى سفينة «سييم بايلوت» التابعة لوكالة «فرونتكس» الأوروبية، التي أنزلتهم لاحقًا في «كاتانيا» صباح 17 أغسطس.
وبينما جرى نقل معظم الناجين إلى مراكز الاستقبال، اقتيد «عبد الكريم» وصديقاه إلى سجن «بياتسا لانتسا» في «كاتانيا» لاستجوابهم، بعدما اشتبهت السُّلطات في كونهم «قادة القارب»، استنادًا إلى معطيات وُصفت لاحقًا بأنها جُمعت بطريقة سطحية.
ووفقًا لتحقيق استقصائي نشره موقع «إيربي ميديا»، حاولت القوات الإيطالية وعناصر «فرونتكس» والشرطة، بين 15 و17 أغسطس، تحديد هوية المهرِّبين أو قادة القارب عبر طلب التعرُّف عليهم من قبل المهاجرين، دون نتيجة حاسمة. وأشار التحقيق إلى أنَّ الإجراءات انطلقت من فرضية مسبقة مفادها أنَّ «المسؤولين عن المأساة لا بد أن يكونوا بين ركّاب القارب أنفسهم».
وشملت تلك الإجراءات ما يُعرَف بأسلوب «التنميط»، الذي يعتمد على معايير جسدية وسلوكية، حيث اعتُبر المشتبه بهم كذلك لأن أحد الضباط لاحظ تجمعهم معًا، بمعزل عن الأخرين، مع إظهار «الخوف والفضول» اتجاه المحقِّقين.
وأظهرت الوثائق لاحقًا أن شهادات عدة كانت متناقضة ومربكة، بل متطابقة في بعض الأحيان، وكأنها نُسخت حرفيًا بين محضر وآخر. كما جرى استجواب نساء من ساحل العاج كن في حالة صدمة، وطُلب منهن التعرف على المشتبه بهم من خلال صور، إلى جانب شاهد باكستاني قدّم روايات متضاربة حول عدد أفراد الطاقم. وفي المقابل، قال شاهدان إن «عبد الكريم» كان يوزع المياه ويحاول الحفاظ على النظام داخل القارب.
وفي حديثها إلى مجلة «لِسبريسو»، أشارت محامية «عبد الكريم»، «تشينزيا بيكورارو»، إلى وجود ثغرات إضافية في مجريات التحقيق، قائلة: “اكتشفنا أن بعض الشهود جرى الاستماع إليهم عبر مترجمين غير مناسبين، أو أنهم لم يُوضعوا أصلًا في ظروف تتيح لهم التعرف فعليًا على أي شخص. وهناك من أفاد بأنه رأى الوجوه بوضوح بفضل اكتمال القمر، غير أن تلك الليلة، في 15 أغسطس 2015، كانت ليلة قمر جديد، ولم يكن من الممكن رؤية أي شيء.”
ورغم هذه الثغرات، أُحيل ثمانية أشخاص إلى المحاكمة بتهم القتل وتسهيل الهجرة غير النظامية. وصدر بحق ثلاثة منهم حكم نهائي بالسجن 20 عامًا في 2019، فيما حُكم على «عبد الكريم» وأخرين بالسجن 30 عامًا في 2017، وأُيد الحكم في الاستئناف عام 2020، ثم في محكمة النقض عام 2021.
وينص قانون الهجرة الإيطالي، المعتمد منذ عام 1998، على عقوبات تصل إلى خمس سنوات بحق من «ينظم أو يدير أو يمول» دخول مهاجرين غير نظاميين، وكذلك من «ينفذ» عملية النقل. وقد فسرت النيابات العامة هذا النص على نحو واسع، ما أدى إلى محاكمة مئات الأشخاص بتهمة قيادة قوارب مهاجرين، ولو لفترة وجيزة، في حين يرى منتقدون أن هذه الممارسات لا تطال فعليًا شبكات التهريب المنظمة.
ويشير تقرير حديث بعنوان «من البحر إلى السجن» إلى اعتقال 106 أشخاص بتهمة «قيادة القوارب» في إيطاليا خلال عام 2024، بانخفاض عن الأعوام السابقة، فيما بلغ عدد المحتجزين بهذه التهمة 86 شخصًا بنهاية العام الماضي.
وفي الأشهر الأخيرة، تقدمت محامية «عبد الكريم» بطلب لإعادة المحاكمة، استنادًا إلى شهادتين جديدتين تنفيان وجود طاقم متواطئ مع المهربين على متن القارب. إلا أن محكمتي الاستئناف في «ميسينا» والنقض رفضتا الطلب في يونيو الماضي.
ويقضي «عبد الكريم» حاليًا محكوميته في سجن «أوتشاردوني» بمدينة باليرمو. وخلال سنوات سجنه، أنهى التعليم الإعدادي والثانوي، والتحق بالجامعة. وفي 29 سبتمبر، حصل على أول تصريح خاص لمغادرة السجن مؤقتًا، للمشاركة في تقديم كتابه الذي يروي قصته، بعنوان «لأنني كنت فتى»، وصدر عن دار «سيليريو» هذا الشهر. ووصف عبد الكريم تلك اللحظة بأنها «معجزة»، بعدما اقتصرت تجربته مع إيطاليا طوال سنوات على السجون وقاعات المحاكم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق