حتّى الآن، لم تصدر عن أي من المسؤولين الأمريكيين – سواء في "البيت الأبيض" أو في "البنتاغون" – تصريحات تؤكِّد على هذه النِّية بشكل مباشر. ويبدو أنَّ هذا الصَّمت هو جزء من استراتيجية "الغموض البنّاء"، التي تهدف إلى الإبقاء على عنصر المفاجأة في حال تُتَّخذ القرار بالضَّربة العسكرية. ومع ذلك، فإنَّ تتبُّع تصريحات الرئيس «ترامب» الأخيرة وتحركات القوات الأمريكية في الشرق الأوسط يوضِّح أنَّ الأمور لم تعد محصورة في دائرة التهديدات الكلامية.
كانت إدارة «ترامب،» قبل اندلاع الاشتباكات، قد انخرطت في مسار تفاوضي مع إيران بهدف الحد من تقدُّم برنامجها النووي مقابل تخفيف العقوبات الدولية الخانقة. إيران – المنهكة اقتصاديًا بعد سنوات من العزلة – أبدت استعدادًا للتفاوض، بينما رأى مراقبون أن ترامب كان يسعى لبناء صورة رئيس ينهي النزاعات المزمنة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط.
غير أن هذا التصوُّر تَغيَّر جذريًا بعد الهجوم الإسرائيلي في 13 يونيو، الذي أدّى إلى انهيار مسار التفاوض. اليوم، يبدو أن ترامب يعتقد أن النظام الإيراني، الذي يعاني داخليًا من ضغوط اقتصادية وخارجيًا من تراجع حلفائه، لن يخضع إلَّا عبر الهزيمة العسكرية. وهو ما دفعه إلى التصريح بأنَّ السبيل "لإنهاء" البرنامج النووي الإيراني – بحسب تعبيره – ليس عبر الدبلوماسية، بل عبر القوة.
الرؤية الجديدة للإدارة الأمريكية تتقاطع تمامًا مع موقف رئيس الوزراء الإسرائيلي «بنيامين نتنياهو»، الذي طالما طالب بتوجيه ضربة عسكرية لموقع "فوردو" النووي الإيراني، المحصَّن داخل جبل ويصعب تدميره إلَّا باستخدام قنابل خارقة للتحصينات مثل GBU-57، التي لا تمتلكها سوى الولايات المتحدة. هذه القنبلة – التي تزن نحو 14 طنًّا – تتطلَّب طائرة خاصَّة لحملها وإلقائها، وهي قاذفة الشبح الأمريكية B-2 Spirit.
حتّى وقت قريب، رفضت الإدارات الأمريكية المتعاقبة، بما فيها إدارة ترامب سابقًا، طلب إسرائيل باستخدام هذه القنبلة. غير أنَّ المعطيات على الأرض الآن تشير إلى تغيُّر جذري في هذه المعادلة.
تشير التقارير الأخيرة إلى أنَّ الولايات المتحدة بدأت بالفعل في تحريك قطعها الجوية باتِّجاه الشرق الأوسط. فقد رصدت "يورونيوز" تحرُّكات مكثَّفة لطائرات التزوُّد بالوقود في الجو – وهي عنصر أساسي لأي حملة جوية موسَّعة – من قواعد أوروبية إلى مواقع أقرب إلى الخليج.
كما أشارت مصادر عسكرية إلى أنَّ واشنطن نقلت طائرات مقاتلة من طراز F-35 وF-15 من قاعدة "ليكينهِيث" البريطانية، وطائرات F-16 من قاعدة "أفيانو" الإيطالية (بإقليم "فريولي فينيتسيا جوليا"). أمَّا بالنِّسبة لقاذفات B-2 القادرة على حمل القنابل الخارقة للتحصينات، فقد أفادت تقارير أنَّ ستَّة منها كانت متمركزة في قاعدة "دييغو غارسيا" بالمحيط الهندي في مايو الماضي.
وبالنظر إلى أنَّ المسافة بين "دييغو غارسيا" وموقع "فوردو" تبلغ نحو 5150 كيلومترًا، فإنَّ قاذفات B-2، التي تتمتَّع بمدى يصل إلى نحو 10 آلاف كيلومتر، قادرة على تنفيذ المهمَّة والعودة بعد التزوُّد بالوقود جوًا.
إنَّ الاعتقاد بأنَّ تدمير المنشآت النووية الإيرانية سيؤدِّي إلى إنهاء الحرب هو افتراض لا يحظى بإجماع. بل على العكس، قد تؤدِّي هذه الضَّربة إلى تصعيد إقليمي خطير، عبر انخراط أطراف أخرى حليفة لإيران مثل "حزب الله" في لبنان، أو الميليشيات المدعومة من طهران في العراق وسوريا. كما أن التدخُّل الأمريكي المباشر قد يُحوِّل الصراع من مواجهة محدودة إلى حرب شاملة في المنطقة.
ومع ذلك، يبدو أن «ترامب»، المدفوع باعتبارات داخلية تتعلق بالانتخابات الرئاسية المقبلة، يرى أن الحسم العسكري قد يمنحه صورة الزعيم القوي الذي لا يتردد في استخدام القوة لحماية مصالح بلاده وحلفائها.
الأسابيع القادمة ستكون حاسمةً في تحديد ملامح المرحلة المقبلة في الشرق الأوسط. ورغم غياب التأكيد الرسمي، فإنَّ المؤشرات الراهنة تدفعنا إلى التساؤل لا عن إمكانية التدخل الأمريكي، بل عن توقيته وطبيعته. وإذا ما قرَّرت واشنطن الدخول في هذه المواجهة، فإنَّ العالم سيكون أمام منعطف حاد، قد لا تعود منه التوازنات الإقليمية والدولية كما كانت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق