لم تكن هذه الاحتجاجات ثمرة دعوات من قوى سياسية كبرى، بل جاءت استجابة مباشرة للأخبار حول عملية القرصنة البحرية. ففي روما وباريس وبرلين ومدريد وأثينا وبروكسل، شارك عشرات الآلاف في مسيرات وأضواء شموع، وتَجمَّعوا أمام سفارات للمطالبة بعدم تجاهل مأساة قطلع غزة المحاصرة. في باريس، احتشد المتظاهرون في ساحة الجمهورية مطالبين بالإفراج عن طواقم السفن التي اعترضتها القوات الإسرائيلية؛ وفي برلين أحاط المتظاهرون بمحطة القطار المركزية رافعين شعار «فلسطين حرة» على نطاق واسع؛ أما في بروكسل فقد احتل المحتجون ساحة البورصة. وشهدت برشلونة وإسطنبول احتجاجات ضخمة أمام القنصليات الإسرائيلية، بينما تظاهر أخرون في أنقرة أمام القنصلية الأمريكية. أما في إيطاليا، فقد أفادت التقارير بخروج مسيرات في 35 مدينة بالتزامن، شارك فيها طلاب ونقابات وأسر، لتشكِّل مشهدًا متنوِّعًا من الغضب الشعبي.
لكن الفجوة بين الحراك الشعبي والموقف الرسمي تبدو صارخة. فالحكومات الأوروبية، رغم حجم الاحتجاجات، التزمت حذَرًا دبلوماسيًا محرِجًا لمواطنيها. في كوبنهاغن، انشغل قادة الاتحاد الأوروبي بتقديم الدعم للجدار المضاد للطائرات المسيّرة وبإقرار قرض لأوكرانيا بأموال روسية مجمَّدة، من دون أي تعليق على الاعتداء الصهيوني. أمَّا في إيطاليا، فقد اقتصر الأمر على تكليف الشرطة بإدارة الوضع الأمني، بينما التزمت الحكومة صمتًا مطبقًا حيال المظاهرات، مكتفيةً بخطاب دبلوماسي باهت ومتردِّد. وزير الخارجية «أنطونيو تاياني» اكتفى بالإشارة إلى اتصاله بنظيره الإسرائيلي لبحث وضع المواطنين الإيطاليين المحتجزين على متن الأسطول، من دون التعليق على الاحتجاجات، بل وأشاد بعملية الاعتراض التي وصفها بأنها «سلمية ومن دون عنف»، مؤكدا أنها جرى الإعداد لها عبر إجراءات تدريجية انطلقت من السفينة الأم «ألما».
من جانبها، اعتبرت رئيسة الوزراء «جورجا ميلوني» من كوبنهاغن أنَّ مهمة الأسطول «خطوة خطيرة وغير مسؤولة في هذه المرحلة»، مُلَمِّحةً إلى أنَّ «معاناة الشعب الفلسطيني» قد لا تكون «الأولوية». وبينما كانت الأزمة محتدمة، نشرت «ميلوني» على منصة «إكس» رسالة تهنئة بـ«عيد الأجداد» مرفقة بصورة مع جدَّتها، ولم تُعلِّق على الاعتداء إلا بعد أكثر من 12 ساعة، مكتفية بتكرار معارضتها للمهمة. في المقابل، التزم وزير النقل «ماتيو سالفيني» الصمت، بينما كان يدرس فرض قيود على الإضراب العام المقرَّر في 3 أكتوبر.
خارج إيطاليا، طلب رئيس الوزراء السويدي «أولف كريسترسون» من الناشطة البيئية «غريتا تونبرغ» العودة إلى بيتها، فيما دعا رئيس الحكومة الإسبانية «بيدرو سانشيز» إسرائيل إلى عدم اعتبار المهمة «تهديداً»، مؤكداً أنها «عمل إنساني». لكن هذه المواقف بقيت معزولةً، في وقت وصفت حكومات عدة، من تركيا إلى كولومبيا، اعتراض الأسطول بأنه «عمل إرهابي».
في هذا السياق، يزداد وقع الصمت الأوروبي ثقلًا: ففي مواجهة تحرُّكات عابرة للحدود شارك فيها مئات الآلاف مطالِبين باحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي، لا تخرج مواقف العواصم الأوروبية سوى ببيانات باهتة وحيادية. هذا الفراغ السياسي يعرض حكومات أوروبا لاتِّهام ضمني: التواطؤ بالصمت والتقصير. فيما تبقى الساحات الشعبية مُصمِّمةً على أنَّ الصَّمت لن يكون غطاءً للهروب من المسؤولية.
