ويشير التقرير إلى أنَّ وراء هذه الأرقام نظامًا ماليًا عالميًا يُكرِّس الامتيازات للشركات العملاقة على حساب الدول، حتّى شَبَّه مُعِدّوه الظاهرة بـ«نهب منظَّم تمارسه الشركات الأميركية العملاقة التي تستنزف بهدوء الثروات العامَّة».
ووفقًا للتقرير، فإنَّ الشركات متعدِّدة الجنسيات، ولا سيما تلك التي تتَّخذ من المراكز المالية الكبرى مقرًّا لها، نقلت أرباحها بصورة مُصطَنعة إلى الملاذات الضريبية، مستفيدةً من الثغرات القانونية وتراخي المؤسَّسات الدولية. وتُعدّ إيطاليا من أكثر الدول الأوروبية تضرُّرًا، بخسائر سنوية تقدَّر بنحو أربعة مليارات يورو – أموال كان يمكن أن تُوجَّه إلى تمويل التعليم والصحة والبنى التحتية أو تقليص الدين العام.
ويقدِّر التقرير أنَّ العالم خسر نحو 1.7 تريليون دولار من الإيرادات الضريبية بين عامي 2016 و2021، بينها 495 مليار دولار تتحمَّل مسؤوليتها الشركات الأميركية متعدِّدة الجنسيات. ويُرجع التقرير هذا الواقع إلى الإصلاح الضريبي الذي أقَرّه الرئيس الأميركي «دونالد ترامب» عام 2017، والذي خفّض ضريبة الشركات من %35 إلى %21، محوِّلاً الولايات المتحدة فعليًا إلى ملاذ ضريبي داخلي.
وباتت الشركات الأميركية تحوّل ضعف أرباحها إلى السوق المحلية، لكنها تدفع ضرائب أقل من السابق، فيما تسجّل شركات مثل غوغل وآبل وميتا ومايكروسوفت معدلات ضريبية فعلية تتراوح بين %8 و %15 فقط، مقارنة بـ %35 قبل ثمانية أعوام. ووفقاً للتقرير، فإن هذه الشركات «تحرم العالم سنوياً من ضرائب تعادل ضعف ما نهبه المستعمرون الإسبان من ذهب وفضة في الأميركيتين على مدى قرن ونصف».
ويشير التقرير إلى مفارقة لافتة، إذ إن الولايات المتحدة تُعدّ في الوقت نفسه أكبر المستفيدين والمضرورين من التهرب الضريبي العالمي، بعدما رفضت الانضمام إلى المعيار المشترك للإفصاح الضريبي (CRS) التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية، وهو النظام الذي يتيح التبادل التلقائي للمعلومات المصرفية بين الدول. هذا الرفض جعل من الولايات المتحدة الأولى عالمياً في مؤشرات السرية المالية، متقدمةً على جزر كايمان والمملكة المتحدة.
وفي أوروبا، يستمر الخطاب الرسمي ضد التهرب الضريبي، لكن العديد من الدول – بينها أيرلندا وهولندا ولوكسمبورغ – تواصل تقديم أنظمة ضريبية تفضيلية، ما يضعف جهود الاتحاد في مواجهة الظاهرة.
ويقدّر التقرير أن معظم الخسائر الضريبية الإيطالية ناتجة عن تحويل أرباح مصطنع من قبل الشركات الأجنبية العاملة في البلاد، والتي تُعلن أرباحها في الخارج. وتشير بيانات منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية إلى أن نحو %25 من الأرباح المُحققة في إيطاليا تُحوّل لأغراض ضريبية خارجها، فيما تُنسب أكثر من نصف الخسائر إلى مجموعات أميركية، والباقي إلى شركات أوروبية مقرها في هولندا والمملكة المتحدة.
ويعادل المبلغ المفقود، والبالغ 22 مليار يورو، نحو %2.5 من الإيرادات الضريبية السنوية أو ما يوازي الإنفاق الصحي لعام كامل في إقليمي «لاتسيو» و «كامبانيا». في المقابل، تدفع الشركات الصغيرة والمتوسطة الإيطالية ضريبة متوسطة تبلغ %27، أي ما يقرب من ثلاثة أضعاف ما تدفعه الشركات العالمية الكبرى، ما يخلق منافسة غير عادلة تُضعف النسيج الإنتاجي وتشجع على نقل الاستثمارات إلى الخارج.
كما يُسلِّط التقرير الضَّوء على فشل منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في ضمان الشفافية والتعاون الضريبي الدولي، معتبِرًا أنَّ الخطوة الإيجابية الوحيدة تتمثل في اتفاقية الأمم المتحدة للتعاون الضريبي الدولي الجاري مناقشتها حاليًا في نيويورك، والتي تشكّل – بحسب التقرير – «فرصة لاستعادة السيادة الضريبية المفقودة بسبب تحويل الأرباح والمعاملات الغامضة بين الشركات».
وتقترح الاتفاقية نظامًا ضريبيًا موحَّدًا للشركات متعدِّدة الجنسيات، يُعاملها ككيان واحد تُوزَّع أرباحه على الدول وفقًا لمكان النشاط الاقتصادي الفعلي، إلى جانب إلزام الشركات بنشر بياناتها المالية على أساس كل دولة على حدة. ويُقدِّر التقرير أن تطبيق هذا النظام كان سيتيح لإيطاليا استعادة نحو ستَّة مليارات يورو سنويًا من الإيرادات الضائعة.
ويرى مُعِدّو التقرير أنَّ تفعيل نظام الإفصاح العام سيُتيح التحقُّق الفوري من مواقع تحقيق الأرباح وفرض الضرائب عليها، ما سيُقلّل فرص التلاعب بأسعار التحويل وإنشاء الشركات الوهمية.
ورغم انضمام إيطاليا إلى المجموعة الأوروبية المؤيِّدة للشفافية، إلَّا أنَّها لم تُفعِّل بعد نظام النشر الكامل لتقارير «الدولة مقابل الدولة» (CbCR)، فيما يتَّسع الفارق بين الضرائب المستحقَّة وتلك المدفوعة فعليًا، وهو ما يؤدِّي – بحسب نص التقرير – إلى «تعميق أوجه عدم المساواة، وتعزيز الفساد، وتقويض أسس الديمقراطية».

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق