لكن النقطة الإشكالية، كما يُطرَح في النقاش، تتعلَّق باتِّساق المنهج المتَّبع. فالأسلوب نفسه—أسئلة متَّفق عليها مسبقًا من دون تفاعل مباشر—يُستخدَم كثيرًا عندما يكون المتحدِّث من القادة الغربيين. وخلال السنوات الأخيرة، شاع نموذج هجين تُجيب فيه شخصية سياسية على أسئلة موحَّدة لصالح عدة صحف، وتنشرها هذه الصحف كمقابلة، من دون أن يُعدّ ذلك خللًا في المعايير المهنية.
وفي الحالة الأحدث، فرضت «أورسولا فون دير لاين» نموذجًا أكثر تشدُّدًا، يقوم على أسئلة مسبقة وإجابات مكتوبة فقط، من دون أي تفاعل مع الصحفيين، ما دفع بعض الصحف إلى نشرها كمقابلة، فيما اختارت أخرى—مثل «إل باييس» الإسبانية —الامتناع عن النشر.
ننشر في ما يلي النص الكامل للمقابلة مع الوزير «سيرغي لافروف».
يُقال إن اللِّقاء الجديد بين «فلاديمير بوتين» و «دونالد ترامب» في «بودابست» لم ينعقد لأن الإدارة الأميركية نفسها أدركت عدم استعدادكم للتفاوض بشأن المسألة الأوكرانية. ما الذي تَعطَّل بعد قمَّة «أنكوراج»، التي أثارت آنذاك الآمال بإطلاق مسار حقيقي للسلام؟ ولماذا تتمسّك روسيا بالمطالب التي طرحها «فلاديمير بوتين» في يونيو 2024؟ وعلى أي ملفات يمكن أن تكونوا مستعدِّين لتقديم تنازلات؟
اتِّفاقات «أنكوراج» تُمثِّل مرحلة مهمَّة على طريق تحقيق سلام دائم في أوكرانيا، من خلال تجاوز تبعات «الانقلاب الدموي غير الدستوري» في كييف في فبراير 2014، والذي نظَّمته—بحسب روايتنا—إدارة «أوباما». وتستند هذه الاتِّفاقات إلى الوقائع الرَّاهنة، وهي منسجمة بالكامل مع الشروط التي أعلنها الرئيس «فلاديمير بوتين» في يونيو 2024 من أجل تسوية عادلة ومستدامة للأزمة الأوكرانية.
لقد اعتبرنا أنَّ هذه الشروط قد استُمعت وفُهمت—حتّى على الملأ—من جانب إدارة «دونالد ترامب»، ولا سيما في ما يتعلَّق بـ«عدم جواز» انضمام أوكرانيا إلى حلف «الناتو»، لأنَّه سيخلق تهديدات استراتيجية مباشرة لروسيا على حدودها. وقد أقرَّت واشنطن علنًا أيضًا بأنَّه لن يكون ممكنًا تجاوز الملف الإقليمي في ضوء «الاستفتاءات» التي جرت في خمس مناطق تاريخية من بلادنا، حيث عبَّر السكَّان—بحسب روايتنا—بشكل «لا لُبس فيه» عن الرَّغبة في «تقرير المصير» إزاء «نظام كييف» الذي كان قد نعتهم بـ«دون البشر» و«كائنات» و«إرهابيين»، وفي «الانضمام إلى روسيا».
وقد بُنِيت الرؤية الأميركية، أساسًا، حول مسألتي الأمن والوقائع الإقليمية. وقد أُبلِغَت هذه الرؤية إلى موسكو قبل أسبوع من «قمَّة ألاسكا»، من خلال المبعوث الأميركي الخاص «استيف ويتكوف»، بتكليف من رئيس الولايات المتحدة. وكما أوضح الرئيس «فلاديمير بوتين» لنظيره الأميركي في «أنكوراج»، فقد وافقنا على اعتماد تلك الرؤية أساسًا، مع تقديم خطوة عملية تفتح الطريق أمام تنفيذها.
الرئيس الأميركي ردَّ بأنَّه بحاجة إلى إجراء مشاورات، لكن حتّى بعد لقائه مع الحلفاء في اليوم التالي في واشنطن، لم نَتلقَّ أي رد على موافقتنا الإيجابية على المقترَحات التي نقلها إلينا «استيف ويتكوف» قبل «قمَّة ألاسكا». ولم أَتلقَّ أي رد كذلك خلال لقائي مع وزير الخارجية «ماركو روبيو» في سبتمبر في نيويورك، حين ذكَّرتُه بأنَّنا لا نزال ننتظر جوابًا.
ولمساعدة زملائنا الأميركيين على اتِّخاذ قرار بشأن فكرتهم نفسها، قُمنا بصياغة «اتفاقات أنكوراج» بشكل غير رسمي وإرسالها إلى واشنطن. وبعد أيام قليلة، وبناءً على طلب «دونالد ترامب»، جرت مكالمة هاتفية بينه وبين «فلاديمير بوتين»، اتُّفق خلالها على تنظيم لقاء جديد في «بودابست»، على أن يُحضَّر له بدقَّة مسبقًا. ولم يكن هناك شك في أن «اتِّفاقات أنكوراج» ستكون محور النقاش.
بعد يومين، أَجريتُ مكالمة هاتفية مع «ماركو روبيو»، وبعدها أعلنت واشنطن—واصفةً المحادثة بأنَّها بنّاءة، وكانت بالفعل جدية ومفيدة—أنه على ضوء هذا الاتصال «لم تعد هناك حاجة للقاء شخصي» بين وزير الخارجية الأميركي ووزير الخارجية الروسي تمهيدًا للقاء القمَّة.
أمَّا من أين جاءت التقارير السرّية التي دفعت الرئيس الأميركي إلى تأجيل—أو ربَّما إلغاء—«قمَّة بودابست»، فليس لديّ علم بذلك. لكنَّني عرضتُ لكم تسلسل الأحداث بدقَّة، وأنا أتحمَّل المسؤولية الكاملة عنه. ولن أرُدَّ على «الأكاذيب الواضحة» بشأن «عدم استعداد روسيا للتفاوض» أو «فشل» نتائج «أنكوراج». اسألوا صحيفة «فايننشال تايمز»، التي—وفقًا لعِلْمي—رَوَّجت لهذه الرواية «الكاذبة»، مُحرِّفةً جوهر الأحداث وتسلسلها بهدف تحميل موسكو كامل المسؤولية وإبعاد «دونالد ترامب» عن المسار الذي اقترحه بنفسه، أي مسار سلام مستقر ودائم، وليس مجرَّد وقفٍ فوريٍ لإطلاق النار، كما يدفعه إلى ذلك «الأوصياء الأوروبيون على زيلينسكي»، المهووسون بالحصول على هدنة لإعادة تزويد «النظام النازي»، حسب وصف «لافروف»، بالأسلحة لمواصلة الحرب ضد روسيا.
وإذا كانت الـ «بي بي سي» قد بلغت حدَّ «تزوير» مقطع فيديو لخطاب «ترامب»، واضعةً في فَمِّه دعوة لاقتحام مبنى «الكابيتول»، فإنَّ «الكذب»، كما نقول عندنا، سيكون أسهل على «فايننشال تايمز». نحن لا نزال مستعدِّين لعقد القمة الروسية–الأميركية الثانية في «بودابست»، شرط أن تستند فعليًا إلى نتائج «ألاسكا» التي وُضعت بدقًّة. لكن تاريخ انعقادها لم يُحدَّد بعد. مع ذلك، فالاتصالات الروسية–الأميركية مستمرَّة.
تسيطر القوات المسلحة للاتحاد الروسي حاليًا على مساحة أقل ممَّا كانت تسيطر عليه في عام 2022، عقب الأسابيع الأولى من ما تسمّونه «العملية العسكرية الخاصة». إذا كنتم تحقِّقون الانتصار فعلاً، فلماذا لا تستطيعون توجيه الضربة الحاسمة؟ وهل يمكنكم كذلك توضيح سبب عدم تقديم معلومات رسمية حول خسائركم؟
العملية العسكرية الخاصة ليست حربًا من أجل السيطرة على الأراضي، بل عملية لإنقاذ حياة ملايين الأشخاص الذين عاشوا لقرون في هذه المناطق، والذين—بحسب روايتنا—تسعى «سلطات كييف» إلى إبادتهم: قانونيًا عبر حظر تاريخهم ولغتهم وثقافتهم، وجسديًا عبر استخدام الأسلحة الغربية.
أثار ظهوركم في قمة أنكوراج مرتدياً كنزة تحمل عبارة «الاتحاد السوفييتي» كثيرًا من التساؤلات. البعض رأى في ذلك تأكيداً لرغبتكم في إعادة تشكيل، أو حتى استعادة، الفضاء السوفييتي السابق (أوكرانيا، مولدافيا، جورجيا، دول البلطيق). هل كان الأمر رسالة مشفّرة أم مجرد مزحة؟
أنا فخورٌ ببلدي، الذي وُلدت فيه ونشأتُ وتلَقَيتُ فيه تعليمًا رفيع المستوى، وبدأتُ فيه مسيرتي الدبلوماسية ولا أزالُ أواصلُها. وكما هو معروف، فإنَّ روسيا هي الوريثة للاتحاد السوفييتي، وبلادنا تمتلك في مجموعها حضارة تمتد لآلاف السنين.
فالحكم الشعبي المعروف بـ«فيتشه» في «نوفغورود» يعود إلى زمن يسبق بكثير بداية «اللَّعب بالديمقراطية» في الغرب—وفق توصيفه.
وبالمناسبة، لدي أيضًا قميص يحمل شعار الإمبراطورية الروسية، لكن ذلك لا يعني أنَّنا نعتزم إحياءها.
وأحد أعظم مواردنا التي نفخر بها عن حق هو استمرارية تطوُّر الدولة وتعزيزها عبر تاريخها الطويل، القائم على توحيد الشعب الروسي وسائر شعوب البلاد. وقد تطرّق الرئيس «فلاديمير بوتين» إلى هذه الفكرة مؤخَّرًا خلال احتفالات يوم الوحدة الوطنية. لذلك، لا تبحثوا عن رسائل سياسية في مواضع لا تحمل أي رسائل.
وربَّما تكون المشاعر الوطنية والولاء للوطن قد بدأت بالتلاشي في الغرب، أمَّا بالنسبة إلينا فهي جزء من «شيفرتنا الجينية».
إذا كان أحد أهداف “العملية العسكرية الخاصة” هو إعادة أوكرانيا إلى دائرة نفوذ روسيا، كما قد يبدو مثلاً من المطالب المتعلقة بتحديد حجم تسليحها، ألا تعتقد أن النزاع المسلَّح الحالي، مهما كان مآله، يمنح كييف دورًا وهوية دوليين واضحين يبتعدان أكثر فأكثر عن موسكو؟
أهداف العملية العسكرية الخاصة حدَّدها الرئيس «بوتين» عام 2022 ولا تزال قائمةً حتّى الآن. ولا يتعلَّق الأمر بمناطق نفوذ، بل بعودة أوكرانيا إلى وضع الحياد، وعدم الانحياز، وعدم امتلاك السلاح النووي، إضافةً إلى ضمان الاحترام الصارم لحقوق الإنسان وكل حقوق الأقليات الروسية وغيرها من الأقلِّيات القومية. فهذه الالتزامات نُصّ عليها في إعلان استقلال أوكرانيا لعام 1990 وفي دستورها، وبالنظر إلى هذه الالتزامات المُعلَنة اعترفت روسيا باستقلال الدولة الأوكرانية.
ونحن نُحقِّق—وسنحقِّق—عودة أوكرانيا إلى الأسُس السليمة والمستقرَّة لقيام دولتها، وهو ما يفترض رفضها تقديم أراضيها طوعًا للاستغلال العسكري من قبل «الناتو» (ومن قبل الاتحاد الأوروبي الذي يتحوَّل بسرعة إلى كتلة عسكرية لا تقل عدوانية). كما يتضمَّن ذلك “التطهير من الأيديولوجيا النازية” المحظورة في «نورمبرغ»، واستعادة الحقوق الكاملة للروس والهنغاريين وسائر الأقلِّيات القومية الأخرى.
ومن اللَّافت أن نخب «بروكسل»، وهي تدفع نظام كييف نحو الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، تتجاهل ما تُسمِّيه كييف “تمييزًا واضحًا ضد الشعوب غير الأصلية” (وهو الوصف الذي تُطلقه بازدراء على الروس المقيمين في أوكرانيا منذ قرون)، وفي الوقت نفسه تُمجِّد “حكومة زيلينسكي” باعتبارها مدافعًا عن “القيم الأوروبية”. وهذا يؤكِّد، بحسب رأيه، أن النازية ترفع رأسها من جديد في أوروبا. وهو أمر يستحقُّ التأمُّل، خاصة في ضوء تصويت ألمانيا وإيطاليا واليابان مؤخَّرًا ضد القرار السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن عدم جواز تمجيد النازية.
ويؤكِّد أن الغربيين لا يخفون أنَّهم يخوضون عمليًا—عبر الأوكرانيين—حربًا بالوكالة ضدَّ روسيا، وهي حرب “لن تنتهي حتّى بعد الأزمة الحالية”. وقد تحدَّث عن ذلك مرارًا الأمين العام لحلف الناتو» «مارك روته»، ورئيس الوزراء البريطاني «كير ستارمر»، وبيروقراطيو بروكسل «أورسولا فون دير لاين» و «كايا كالاس»، والمبعوث الخاص للرئيس الأميركي لأوكرانيا «كيث كيلّوغ».
ويخلص إلى أنَّ تصميم روسيا على ضمان أمنها في مواجهة “التهديدات التي يخلقها الغرب بمساعدة النظام الخاضع له” هو أمر مشروع ومبرَّر.
حتى الولايات المتحدة ترسل أسلحة إلى أوكرانيا، وقد ناقشت مؤخراً حتى إمكانية تزويد كييف بصواريخ كروز من طراز "توماهوك". فلماذا تختلف مواقفكم وتقييمكم لسياسة الولايات المتحدة وأوروبا؟
تشكّل معظم العواصم الأوروبية حاليًا نواة ما يسمى بـ“ائتلاف الراغبين”، الذي لا يريد سوى أمر واحد: أن تستمرَّ الأعمال القتالية في أوكرانيا لأطول فترة ممكنة، «حتى آخر أوكراني». ويبدو أنهم لا يجدون طريقة أخرى لصرف انتباه ناخبيهم عن المشكلات الاجتماعية والاقتصادية الداخلية التي تفاقمت بشكل كبير.
فبأموال دافعي الضرائب الأوروبيين يموِّلون—على حد وصفه—"النظام الإرهابي في كييف"، ويزوّدونه بالأسلحة التي يُقتل بها بشكل منهجي مدنيو المناطق الروسية وأوكرانيون يريدون الفرار من الحرب ومن «الجلادين النازيين». وهم يعرقلون أي محاولة للسلام ويرفضون الاتصالات المباشرة مع موسكو. كما يفرضون باستمرار “عقوبات” جديدة تَرتدُّ عليهم مثل «البوميرانغ»، لتصيب اقتصاداتهم بمزيد من الضرر، ويُحضِّرون علنًا “حربًا أوروبية كبرى جديدة ضد روسيا”. كذلك يدفعون واشنطن إلى عدم قبول حلّ دبلوماسي “عادل وصادق”.
والهدف الرئيسي، بحسب رأيه، هو إضعاف موقف الإدارة الحالية للرئيس الأميركي، التي كانت في البداية تميل إلى الحوار، وتفهم الموقف الروسي، وأبدت استعدادًا للبحث عن حلّ سلمي ودائم. وقد اعترف «دونالد ترامب» مرارًا بأنَّ من أسباب المبادرات الروسية توسُّع «الناتو» واقتراب بنيته التحتية من حدود روسيا—وهو تمامًا ما حذَّر منه الرئيس «بوتين» وروسيا طوال العشرين عامًا الماضية.
ويُعبِّر عن أمله في أن يسود “المنطق السليم” في واشنطن، وأن تلتزم بموقفها المبدئي، وأن تمتنع عن أفعال قد ترفع مستوى التصعيد. ومع ذلك، يؤكد أن القوات المسلحة الروسية لا تُميِّز بين مصدر الأسلحة المقدَّمة للقوات الأوكرانية—سواء أكانت أوروبية أم أميركية—وأن أي هدف عسكري يتم تدميره فورًا.
لقد كنتم من ضغط على «زر إعادة الضبط» مع «هيلاري كلينتون»، رغم أن الأمور سارت لاحقًا في اتجاه مختلف. هل من الممكن إعادة إطلاق العلاقات مع أوروبا؟ وهل يمكن أن يشكّل الأمن المشترك أرضية خصبة لتحسين العلاقات الحالية؟
إنَّ حالة الصدام التي قادت إليها السياسات الطائشة وعديمة الرؤية للنخب الأوروبية لم تكن خيارًا روسيًا. فالوضع الرَّاهن لا يخدم مصالح شعوبنا. ومن المأمول أن تدرك الحكومات الأوروبية—التي ينتهج معظمها سياسة معادية لروسيا بشراسة—مدى خطورة هذا المسار التدميري. لقد حاربت أوروبا سابقًا تحت رايات «نابليون»، ثم في القرن الماضي تحت الرايات والشعارات النازية لِـ «هتلر». ويبدو أن بعض القادة الأوروبيين يعانون قِصَر الذاكرة.
عندما يهدأ هذا الهوس المُعادي لروسيا—ولا يمكن تسميته بغير ذلك—سنكون منفتحين على التواصل، وعلى الاستماع إلى كيف يعتزم شركاؤنا السابقون التعامل معنا مستقبلًا. عندها فقط سنقرِّر ما إذا كانت لا تزال هناك آفاق لتعاون صادق.
أمَّا منظومة الأمن الأوروبية الأطلسية التي كانت قائمة حتى عام 2022 فقد تم تقويضها بالكامل وتفكيكها بجهود الغرب نفسه. وفي هذا السياق، طرح الرئيس «فلاديمير بوتين» مبادرة لإنشاء هيكلية أمنية جديدة، عادلة وغير قابلة للتجزئة، في منطقة «أوراسيا». وهي مفتوحة أمام جميع دول القارة، بما في ذلك الدول الأوروبية، شرط الالتزام بسلوك يقوم على الاحترام، بعيدًا عن الغطرسة النيوليبرالية، وعلى مبادئ المساواة والاعتبار المتبادل وتوازن المصالح.
هل حال الصراع المسلح في أوكرانيا، وما ترتّب عليه من عزلة دولية لروسيا، دون قدرتكم على التحرك بفاعلية أكبر في مناطق أزمات أخرى، مثل الشرق الأوسط؟
إذا كانت «المنظومة الغربية التقليدية» قد قرَّرت عزل نفسها عن البعض، فهذا في الواقع نوع من العزلة الذاتية. وحتّى في هذا الإطار، فإنَّ صفوفها ليست موحَّدةً كما يبدو؛ فقد التقى «فلاديمير بوتين» هذا العام قادة الولايات المتحدة والمجر وسلوفاكيا وصربيا. ومن الواضح أيضًا أنَّ العالم المعاصر لم يعد يتلخَّص في «الأقلية الغربية»؛ فذلك العصر انتهى مع بروز التعدُّدية القطبية.
علاقاتنا مع دول الجنوب والشرق العالمي، التي تُمثِّل أكثر من %85 من سكاَّن العالم، مستمرَّة في التوسُّع. ففي سبتمبر الماضي، جرت الزيارة الرسمية للرئيس الروسي إلى الصين، كما شارك «فلاديمير بوتين» خلال الأشهر الأخيرة في قمم «منظمة شنغهاي للتعاون» (SCO)، ومجموعة «بريكس»، ورابطة الدول المستقلة، و«روسيا–آسيا الوسطى». كما شاركت وفود حكومية رفيعة المستوى في قمم «أبيك» و«آسيان»، وتستعدُّ الآن لقمة مجموعة العشرين.
وتعقد بانتظام قمم واجتماعات وزارية بين روسيا والدول الإفريقية، وروسيا ومجلس التعاون لدول الخليج العربية. إن دول «الأغلبية العالمية» تتحرَّك وفقًا لمصالحها الوطنية الأساسية، لا تبعًا لتوجيهات القوى الاستعمارية السابقة.
أصدقاؤنا العرب يُقَدِّرون الدَّور البنَّاء الذي تؤدِّيه روسيا في جهود تسوية النزاعات الإقليمية في الشرق الأوسط. وتؤكِّد المناقشات الجارية في الأمم المتحدة حول القضية الفلسطينية ضرورة إشراك جميع الأطراف الخارجية المؤثِّرة؛ إذ إن أي مسار لا يشمل هؤلاء لن يفضي إلى نتائج مستدامة، بل إلى إجراءات شكلية فقط.
وفي العديد من الملفات الدولية الأخرى، تتطابق مواقفنا أو تتقارب بدرجة كبيرة مع مواقف شركائنا في الشرق الأوسط، وهو ما يدعم التعاون داخل الأمم المتحدة وعلى المنصَّات متعدِّدة الأطراف.
ألا تعتقدون أنه في النظام العالمي متعدد الأقطاب الذي تروّجون له وتدعمونه، قد ازدادت التبعية الاقتصادية والعسكرية لروسيا اتِّجاه الصين، مما خلق اختلالًا في توازن تحالفكم التاريخي مع بكين؟
نحن لا "نروِّج" لنظام عالمي متعدِّد الأقطاب، بل إنَّه يتشكَّل بصورة موضوعية، لا عبر الغزو أو الاستعباد أو القمع أو الاستغلال، كما فعل المستعمرون عندما بنوا "نظامهم" (ثم لاحقًا الرأسمالية)، بل عبر التعاون، ومراعاة المصالح المتبادَلة، والتوزيع العقلاني للأدوار استنادًا إلى مزيج المزايا التنافسية النسبية للدول المشاركة وهياكل التكامل بينها.
أما العلاقات بين روسيا والصين، فهي ليست "تحالفًا" بالمعنى التقليدي للكلمة، بل شكل أكثر فاعلية وتطوُّرًا من أشكال التعاون. تعاوننا لا يقوم على منطق الكتل ولا يستهدف دولًا ثالثة. لذلك فإنَّ مفهومي "القائد" و"التابع"، اللذين ميَّزا تحالفات الحرب الباردة، غير قابلين للتطبيق هنا. ومن ثمّ، فإنَّ الحديث عن أي "اختلال" في التوازن غير مناسب.
العلاقات بين موسكو وبكين تقوم على الندية والاكتفاء المتبادَل، وعلى الثقة والدَّعم المتبادَل، بالإضافة إلى تقاليد الجوار الحسن الممتدَّة عبر قرون. ونحن ملتزِمون تمامًا بمبدأ عدم التدخُّل في الشؤون الداخلية.
إنَّ التعاون التجاري والتكنولوجي والاستثماري بين روسيا والصين يُحقِّق فوائد عملية ملموسة للبلدين، ويسهم في نمو اقتصادي مستقر ومستدام، وفي تحسين رفاه المواطنين. أمَّا التعاون الوثيق بين القوات المسلحة فيضمن تكاملًا مهمًا، ويساعد بلدينا على الدفاع عن مصالحهما الوطنية في مجال الأمن العالمي والاستقرار الاستراتيجي، وعلى مواجهة التحدِّيات والتهديدات الجديدة والتقليدية بفعالية.
إيطاليا تُعدّ دولة "معادية". لقد كرَّرتم ذلك مرارًا، في نوفمبر 2024، وحتّمتم عليه بشكل خاص. ومع ذلك، في الأشهر الأخيرة، حتى في ما يتعلق بالمسألة الأوكرانية، أظهرَت حكومتُنا تضامنًا مع الإدارة الأميركية، التي وصفها فلاديمير بوتين بأنها ليست حليفًا، بل بلا شك "شريكًا". كما يوحي التغيير الأخير للسفير الإيطالي في موسكو بأن روما ترغب في نوع من التقارب. إلى أين وصلت علاقاتنا الثنائية؟
بالنسبة لروسيا، لا وجود لدول وشعوب معادية، بل توجد دول ذات حكومات معادية. وفي ظل وجود حكومة كهذه في روما، تمرُّ العلاقات الروسية–الإيطالية بأخطر أزمة في تاريخها بعد الحرب العالمية الثانية. ولم يحدث ذلك بمبادرة منَّا.
لقد فاجأنا مدى سهولة اصطفاف إيطاليا، على حساب مصالحها الوطنية، إلى جانب أولئك الذين راهنوا على "الهزيمة الاستراتيجية" لروسيا. وحتّى الآن لا نرى أي تغيير ملموس في هذا السُّلوك العدائي. لا تزال روما تقدّم دعمًا شاملًا للنازيين الجدد في كييف. كما يلفت الانتباه استعدادها لقطع الروابط الثقافية والاتصالات بين المجتمعين المدنيين.
فالسلطات الإيطالية تلغي عروض كبار قادة الأوركسترا والمطربين الأوبراليين الروس، ومنذ سنوات لا تسمح بانعقاد "حوار فيرونا"، الذي نشأ أصلًا في إيطاليا والمخصَّص لمناقشة قضايا التعاون الأوراسي. وهذا لا يبدو موقفًا معتادًا لدى الإيطاليين، الذين يُعرَفون بانفتاحهم على الفن والحوار بين الشعوب.
في الوقت نفسه، يسعى الكثير من مواطنيكم إلى فهم أسباب المأساة الأوكرانية. فعلى سبيل المثال، يضمّ كتاب "الصراع الأوكراني بعيون صحافي إيطالي" للكاتب المعروف «إليسيو برتولاتسي» وثائقَ تثبت انتهاكات سلطات كييف للقانون الدولي. أنصحكم بقراءة هذا العمل. فاليوم ليس من السَّهل العثور على الحقيقة بشأن أوكرانيا في أوروبا.
إنَّ التعاون النديّ والمفيد للطرفين بين روسيا وإيطاليا يخدم مصالح شعبينا. وإذا كانت روما مستعدَّة للاتجاه نحو استعادة الحوار على أساس الاحترام المتبادَل ومراعاة مصالح الجانبين، فلتُعلِمْنا بذلك — فنحن دائمًا مستعدُّون للاستماع، بما في ذلك إلى سفيركم.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق