في بلدٍ يفتخر بتقدُّمِه الطبّي ونظامه الصحّي العريق، تتفاقم ظاهرةٌ تُذكِّرنا بأنَّ الحداثة لا تكتمل ما لم تُقاس بإنسانيتها. الحديث هنا عن الختان السرّي في إيطاليا، الذي ارتفعت نسبته خلال السنوات الأخيرة بنسبة %42، وفقًا لتقارير صادرة عن منظمتي «جالية العالم العربي في إيطاليا» (Co-mai) و«نقابة الأطباء من أصل أجنبي» (AMSI) وعدَّة مؤسَّسات طبية وإنسانية أخرى.
هذه الأرقام ليست مجرَّد إحصاءات جافَّة عابرة، بل يمكن اعتبارها بمثابة جرس إنذار صحّي وأخلاقي، يقرع بقوة في وجه صمتٍ مؤسَّسي لم يعد مبرَّرًا. فخلف كل رقم طفلٌ يُعرَّض لمخاطر جسدية ونفسية، وعائلةٌ تبحث عن حلٍّ يوازن بين الواجب الديني والقدرة المادية، فلا تجد سوى الأبواب الموصدة.
بين القانون والإيمان.. أين تقف الدولة؟
منذ أكثر من خمسة عشر عامًا، حذَّر البروفيسور «فؤاد عودة»، رئيس الجمعيات العربية والطبية المذكورة أعلاه، من هذه الظاهرة حين كانت نسبتها لا تتجاوز %35. واليوم، وقد تجاوزت %42، يصف الأمر بأنه “كارثة صحّية وأخلاقية”، مؤكِّدًا على أنَّ كل عملية تُجرى في الخفاء هي “فشل للنظام الصحّي والسياسي في آن واحد”.
الختان، كما يشير «عودة»، ليس قضية دينية فحسب، بل مسألة طبية وإنسانية بامتياز. حين ترتفع تكاليف العملية الشرعية في المستشفيات، وتتعقّد الإجراءات البيروقراطية، يجد كثير من الآباء أنفسهم مضطرِّين للجوء إلى ممارسات غير قانونية. النتيجة: عشرات الآلاف من الأطفال يُخضعون لعمليات تفتقر إلى أدنى معايير الأمان، فقط لأنَّ النظام لم يُتح لهم البديل الآمن والمُيَسَّر.
نماذج ناجحة.. وإهمال وطني
ليست الصورة قاتمة بالكامل. فبعض الأقاليم الإيطالية مثل «توسكانا» و «ماركي» و «لاتسيو» نجحت في دمج الختان الطقسي ضمن نُظُمها الصحّية الرّسمية، بحيث يُجرى تحت إشراف طبي وبتكلفة معقولة. هذه التجارب أثبتت أن التوفيق بين الإيمان والقانون والطب ممكن، متى ما توفَّرت الإرادة السياسية.
لكن المشكلة أنَّ هذه المبادرات تظلُّ محلِّية ومجزَّأة، في غياب رؤية وطنية شاملة. وهو ما دفع الجمعيات المشاركة إلى مطالبة حكومة «جورجا ميلوني» ووزير الصحة «أوراتسيو اسكيلاتشي» بوضع خطة وطنية واضحة تضمن إجراء الختان ضمن منظومة الرعاية الصحِّية الرَّسمية، وتفرض رقابة على الممارسات السرِّية.
صرخة من أجل الأطفال
البيان المشترك للجاليات والجمعيات لم يكن مجرَّد تحذير، بل صرخة ضمير جماعية. وكما قال الإعلامي «حامد خليفة»، منسق المكتب الإعلامي للجاليات العربية في إيطاليا: “الختان الشرعي لا يجب أن يكون امتيازًا طبقيًا، بل حقًا صحيًا متاحًا لكل طفل.”
كلمات تختصر جوهر القضية: العدالة الصحية. فلا معنى لحرِّية المعتقد حين تُمارس في الظل، ولا جدوى من قوانين متقدِّمة إذا تركت الأطفال يواجهون الخطر وحدهم.
كفى صمتًا
إنَّ السكوت عن الختان السرّي ليس حيادًا، بل تواطؤ صامت مع خطر متصاعد. المطلوب اليوم ليس سِجالًا حول الطقوس، بل تنظيمًا شجاعًا ومسؤولًا يعترف بالواقع ويتعامل معه بإنسانية. فكل طفل يُجرى له الختان في الخفاء هو وصمة على جبين نظامٍ صحيٍّ يَدَّعي الكمال، وكل يوم تأخير في التحرُّك هو جريمة في حقّ البراءة.
باختصار، إيطاليا تملك القدرة على أن تكون نموذجًا للتوازن بين القيم الدينية والمهنية، شرط أن تختار الإنصات إلى ضميرها قبل أن تفقد المزيد من الأطفال في صمتٍ يقتل أكثر من الجهل نفسه.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق