وازداد التشاؤم الأوروبي خلال الصيف الماضي بعدما بقيت القارة على الهامش بينما سعت واشنطن وبكين إلى إعادة صياغة قواعد التجارة العالمية. وبلغ القلق ذروته هذا الشهر عندما قدّم البيت الأبيض خطته لإنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا من دون التشاور مع القادة الأوروبيين.
وردًّا على ذلك، أعدّ الاتحاد الأوروبي مقترحًا بديلاً أكثر قبولًا لدى كييف، فيما سارعت الدول الأعضاء إلى تعزيز قدراتها الدفاعية بينما يبحث التكتّل عن آليات لتجاوز الجمود المؤسسي. غير أن تحقيق هذا التحوّل سيكون صعبًا ويحتاج إلى وقت—وقت تخشى أوروبا أنها لم تعد تملكه.
وتتركّز الجهود الأوروبية اليوم على كيفية تنفيذ هذا التحوّل، وسط مخاوف متزايدة بين المسؤولين الحاليين والسابقين من أن هيكلية الاتحاد وإجراءاته قد تتركه في مرتبة متدنّية في النظام الجيوسياسي الجديد.
وبات العديد من القادة الأوروبيين يميلون إلى تشكيل مجموعات أصغر من الدول بهدف تعزيز القدرات العسكرية والاقتصادية للاتحاد ككل. «ماريو دراغي»، الرئيس السابق ل«لبنك المركزي الأوروبي» والمكلّف العام الماضي بإعداد خطة لزيادة تنافسية أوروبا، يدفع باتجاه تعاون عدة دول في مشاريع مشتركة للبحث والتطوير الدفاعي، ووضع قواعد موحّدة تساعد الشركات الأوروبية الناشئة على التوسع. كما يدعو «دراغي» إلى توحيد الاستثمارات الصناعية في قطاعات استراتيجية مثل أشباه الموصلات لاستعادة التفوق الأوروبي. وتحظى هذه المقاربة تدريجيًا بالدعم.
وتواجه ألمانيا، التي كانت لفترة طويلة محرّك الاقتصاد الأوروبي، انهيار الركائز التي اعتمدت عليها في نجاحها: الغاز الروسي الرخيص، الأسواق المربحة في الصين، والمظلّة الدفاعية الأميركية. وازاء ذلك، خفّفت برلين القيود على الاستدانة لتتمكن من ضخ 500 مليار يورو في برنامج تسليح على مدى عشر سنوات.
ويرى محلّلون عسكريون أن ألمانيا المعزّزة عسكريًا، إلى جانب دول بولندا والدول الاسكندنافية ودول البلطيق، إضافة إلى فرنسا وبريطانيا النوويتين، قد تُشكّل تحالفًا قادرًا على كبح التوسع الروسي. لكن العقبات أمام هذا التحوّل ما تزال كبيرة. فالوزارات الدفاعية لا ترغب بالتخلي عن سلطتها على خطط التسلّح والمشتريات، كما أن الشركات الصناعية الكبرى ليست مستعدة للانتقال من المنافسة إلى التعاون بسهولة.
وأدى النزاع التجاري بين «واشنطن» و «بكين» إلى تهديد إمدادات المعادن النادرة الحيوية للدفاع الأوروبي والتحول الأخضر. وعندما نجح لقاء «ترامب» و «شي جين بينغ» في تهدئة مؤقتة للتوتر، تعزز إدراك الأوروبيين بأن مصيرهم ليس بأيديهم.
ويرى الدبلوماسي الأوروبي السابق «بيار فيمون» أن مؤسسات الاتحاد غير مهيأة للتعامل مع مرحلة “سياسة القوة” والمنافسة الشرسة، لكن الدول الأعضاء ليست مستعدة لقضاء سنوات في مفاوضات بنيوية جديدة.
وتفاقمت المخاوف مع الموقف الأميركي الأكثر تشددًا تجاه أوروبا، إذ ضغط «ترامب» على أعضاء «الناتو» لزيادة إنفاقهم الدفاعي وعلى دعم أوكرانيا. وتستعد القارة لإنفاق أكثر من 560 مليار دولار هذا العام على الدفاع، وهو ضعف ما كانت تنفقه قبل عقد. ورغم ذلك، تبقى أوروبا قلقة من التزام «ترامب» بحلف «الناتو»، خصوصًا بعد تصريحاته المثيرة حول «غرينلاند»، الإقليم الدنماركي. كما تبيّن في يوليو أن السوق الأوروبية الموحدة لم تعد ورقة ضغط كافية، بعدما استخدمت واشنطن تفوقها الأمني لانتزاع مكاسب تجارية.
وتتعقد العلاقة مع الصين كذلك؛ فمع تباطؤ الاقتصاد الصيني، تواصل بكين إغراق السوق الأوروبية بالواردات الرخيصة، بينما تجاوزت الشركات الصينية منافسيها الأوروبيين في مجالات عدة مثل السيارات الكهربائية، ما أدى إلى خسائر كبيرة في الوظائف داخل ألمانيا. وقال المستشار الألماني «فريدريش ميرتس» الشهر الماضي إن السنوات المقبلة ستحدد “ما إذا كانت أوروبا ستظل قوة اقتصادية مستقلة… أو ستتحول إلى مجرّد ورقة في يد القوى الكبرى في آسيا أو أميركا.”
وكان «جوزيب بوريل»، الذي تولّى منصب مسؤول السياسة الخارجية للاتحاد في 2019، قد تلقّى وثيقة استخباراتية تحذّر من سيناريوهات تشمل غزو روسيا لأوكرانيا وتجدد العنف في الشرق الأوسط وزيادة تدفقات الهجرة، إضافة إلى توترات تجارية حادة مع الصين والولايات المتحدة.
