الإيطالية نيوز، السبت 20 ديسمبر 2025 – يبدأ كلّ شيء، على الأرجح، من دلالة خاصة لما هو غير مرئي، بوصفه امتدادًا لتلك الرؤية الوسيطة التي كانت ترى في الأشياء المحسوسة صورًا للأشياء اللامحسوسة. ومن هنا تتشكّل طريقة إدراك مغايرة، ووعي خاص بواقع متعدّد المستويات ومتزامن في آن واحد. إنها رؤية ذات جذور أفلاطونية محدثة، تكاد تحوّل فعل النظر إلى رؤية بالمعنى العميق، رؤية تمتلك قوة خلاقة قادرة على توجيه الفهم الإنساني، انطلاقًا من الاعتقاد بأن الكائنات غير المادية، كما الأشياء الجامدة، تعكس الأحداث البشرية ويمكنها التأثير فيها.
وعلى هذا الأساس، يتكرّس وضع فريد للأشكال التعبيرية، بحيث يمكن القول إن الكلمات تُرى، وإن الأيقونات – أي الصور المقدسة – تُسمَع. وفي النسخة الروائية لفيلم «أندريه تاركوفسكي» عن رسّام الأيقونات «أندريه روبليوف» (1992)، ترد عبارة لراهب، وهو يتأمل أيقونة تلمع بزيت الكتان، يقول فيها بنشوة إن من يتأملها يستطيع أن يسمع أفكار تلك الشخصيات الإلهية.
وفي الثقافة الروسية في القرنين التاسع عشر والعشرين، بوصفها الوريثة الحيّة لتصور قديم للعالم، يغدو من الجوهري فهم المكانة الخاصة للواقع انطلاقًا من البعد الملموس للكلمة. تلك الكلمة التي شبّهها «بافيل فلورنسكي» بكائن حي؛ فهي لا تنقل الأفكار فحسب، ولا تصوّر الأشياء أو الحالات فقط، بل تختزن، بحسب «فلورنسكي»، طاقة الإرادة والانتباه، أي جوهر الحياة الباطنية للإنسان. وعلى المنوال ذاته، يحيي «فلاديمير ماياكوفسكي» في شعره فكرة أن الفعل الخلّاق يكمن داخل الكلمة نفسها؛ فتغدو الكلمة في آن واحد تقليدًا وثورة، نظامًا وفوضى، واقعية وخيالًا، وبذلك تستمر الأساطير والحكايات الشعبية داخل النصوص والسرديات جنبًا إلى جنب مع الابتكارات الفنية الحديثة.
أما التحوّل الحاسم الذي أحدثته الثورة البلشفية، فقد دفع عددًا كبيرًا من رموز النخبة الفكرية إلى الانخراط فيها بحماسة في البداية، قبل أن يتراجعوا ويترددوا، لينتهوا بعد نحو عشرين عامًا، في عهد «جوزيف ستالين»، إلى الاضطهاد والموت في «معسكرات الغولاغ».
ولا تُحصى الإسهامات في هذا السياق داخل الثقافة الروسية، وهي تبدو متعارضة ظاهريًا فقط. «فنيقولاي برديائيف»، أحد أبرز ممثلي ما يُعرف بالأناركية المسيحية، يرى مثلًا أن الأفكار لدى «فيودور دوستويفسكي» تتجسّد في كلمات أشبه بـ«مصائر للوجود، كطاقات أولية متّقدة»، وأنه على المستوى التاريخي يتواجه باستمرار زمن إلهي وزمن أرضي، وسلطان الله في مقابل سلطان قيصر.
وهكذا تظهر الثقافة الروسية بوصفها قوة تدير الصراعات والتناقضات. وقد لاحظ «ميخائيل باختين»، وهو يدرس عصر النهضة، كيف جرى ملء هذا الصراع القيمي وتفجيره عبر الغروتيسك والسخرية من السلطة، وهي ذروة رأى أنها تجلّت في أعمال رابليه. فالإرث الإنساني الأفلاطوني المحدث يصطدم هنا بالواقعية الجسدية لانتفاضات اللغة الشعبية. وكان اللغوي الكبير «رومان ياكوبسون»، برفقة زميله عالم الإثنوغرافيا «بيوتر بوغاتيريوف»، يتجولان بحماسة وفضول في الأسواق الشعبية زمن الثورة، لالتقاط صرخات الباعة، قبل أن ينصرف «ياكوبسون» بشغف مماثل إلى تحليل شعر كبار الشعراء.
وفي المحصلة الأخيرة، ينبغي تحرير الكلمة من آلياتها التلقائية، ومن وظيفتها الأساسية لكنها الاختزالية بوصفها مجرد أداة للتواصل. إذ يجب أن تتحول إلى «إلهة مجنّحة»، على غرار تلك الشروح المرافقة للأيقونات، التي لم تكن تشير إلى القديسين أو العذراء أو الرب بوصفهم عناصر تركيب بصري، بل كتمثّلات تعبيرية، كلمات من «الكلمة»، وصورًا متحررة من أي قدر