وتبرز في هذا الإطار قضية منشأة التزحلق والمزالق (Sliding Center) «يوجينيو مونتي» في كورتينا، المخصّصة لاستضافة مسابقات البوب والسكيليتون والزلاجات، التي كانت تقديراتها الأولية تبلغ 47 مليون يورو، لكنها ارتفعت في النهاية إلى نحو 124 مليون يورو، في مؤشر على حجم التكاليف المتضخّمة المرتبطة ببعض مرافق البطولة.
وينسجم هذا السياق مع الانتقادات المتكرّرة التي تطال الاستثمارات والبنى التحتية المصاحبة للألعاب الكبرى عالميًا، إذ غالبًا ما تتجاوز ميزانيات التجهيزات الفعلية ما كان مخططًا له، مع آثار اجتماعية وبيئية يصعب قياسها أو السيطرة عليها قبل وبعد الحدث.
من إجمالي 3.54 مليارات يورو أنفقتها شركة «سيميكو» (Simico) على دورة الألعاب الأولمبية ميلانو–كورتينا، التي تنطلق في السادس من فبراير المقبل بحفل الافتتاح، لا يتجاوز ما خُصص للأعمال المرتبطة مباشرة بالمنافسات والفعاليات الرياضية نسبة 13 في المئة، فيما يندرج 87 في المئة ضمن البنى التحتية الدائمة المخصصة للمناطق المعنية، والمعروفة بما يُسمى «الإرث» (Legacy)، أي المشاريع التي ستبقى كمنفعة دائمة بعد انتهاء الألعاب.
وجاء في التقرير الثالث لشبكة «أوبن أوليمبيكس 2026» أنه «مقابل كل يورو يُنفق على الأعمال الضرورية للألعاب، يُنفق 6.6 يورو على مشاريع الإرث». وتضم هذه الشبكة المدنية 20 منظمة تقودها جمعية «ليبيرا»، من بينها «الصندوق العالمي للطبيعة – إيطاليا» (WWF Italia)، و«إيطاليا نوسترا»، و«ليغامبيينتي»، و«نادي جبال الألب الإيطالي» (CAI)، و«ماونتن ويلدرنس إيطاليا»، و«سيبرا إيطاليا»، وقد أُنشئت بهدف تعزيز الشفافية بشأن الأثرين المالي والبيئي للحدث الرياضي.
وعلى الرغم من الجهد الكبير الذي يبذله هذا التحالف من الناشطين والخبراء، وعلى الرغم من النداءات المتكررة من أجل مزيد من الشفافية، لا تزال العديد من الجوانب المحيطة بالمشروع غامضة حتى الآن: تمثلت في نشر مجموعة من البيانات الخاصة بالمشروعات من دون أن يحدث تحديثها بشكل دوري، بالأخص تكاليف المشاريع، سواء تلك التي أُنجزت أو أُعيد تأهيلها خصيصًا لاستضافة الفعاليات الرياضية، أو المشاريع المرافقة، مثل الطرق وشبكات الربط السككي.
إرث الورش والمشاريع
وسيتمثَّل «الإرث» في نهاية المطاف في مشاريع وورش عمل قيد التنفيذ، إذ يشير التقرير إلى أن «16 مشروعًا أُنجزت، و51 قيد التنفيذ، و3 مطروحة للمناقصات، و28 لا تزال في مرحلة التصميم. وفقط 42 مشروعًا لها موعد إنجاز يسبق انطلاق الألعاب». ويعني ذلك أن 57 في المئة من التدخُّلات ستُستكمل بعد انتهاء الحدث، على أن يستمرَّ آخر ورش العمل حتَّى عام 2033.
كما أنَّ بعض المشاريع، مثل مضمار التزلُّج الجماعي (البوبسلي) أو القرية الأولمبية في «كورتينا«، لن تُنجَز بشكل نهائي إلَّا بعد اختتام الألعاب.
ارتفاع التكاليف: 157 مليون يورو إضافية
أما أبرز خمس زيادات من حيث القيمة المطلقة فهي على النحو الآتي:
-
تعديل مشروع «لونغاروني» في محافظة «بيلّونو» (43+ مليون يورو).
-
الطريق الالتفافي في «بيركا»، في إقليم «بولزانو» المتمتِّع بالحكم الذاتي (31+ مليون يورو)، بزيادة بلغت 22.14 في المئة مقارنة بالقيمة الأصلية.
-
الطريق الدائري الجنوبي لمدينة «سوندريو» (13.3+ مليون يورو)، وهو المشروع الذي سجَّل أيضًا أعلى نسبة زيادة مئوية.
-
منشأة النقل بالحبال في «سوكريبيس»، قرب «كورتينا» (13+ مليون يورو).
-
الربط التزلجي في «ليفينيو»، بمحافظة «سوندريو» (8.5+ مليون يورو).
ولم تُعوَّض هذه الزيادات بتوفيرات في مشاريع أخرى، إذ اقتصر خفض التكاليف على مشروعين فقط.
البيئة والمقاولات الفرعية: معلومات لا تزال «سرية»
وعلى الرغم من ذلك، لم تتمكَّن الحملة من توثيق معلومات جوهرية بشأن عدد من القضايا. ويُعدُّ تقرير «أوبن أوليمبيكس» أيضًا بين الأداوات لتسليط الضوء على مواطن الغموض والنقص في الشفافية.
فعلى سبيل المثال، لا تزال المعلومات شحيحة بشأن الآثار البيئية التي ستخلِّفها الألعاب والمشاريع المرتبطة بها. إذ لم تُجرَ أي تقييمات للأثر البيئي لنحو 64 في المئة من المشاريع. كما لا تتوافر بيانات حول البصمة الكربونية لكل مشروع على حدة. وجاء في التقرير أن «جمع البصمات الفردية لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون كان من شأنه أن يوضِّح ما إذا كان تنظيم الألعاب قد أسهم، أو لم يسهم، في تفاقم التغيُّر المناخي، وكيف يؤثِّر في بيئة تُعتبَر في الأصل شديدة الهشاشة».
ولا تتوافر سوى بيانات متعلِّقة بِـ «مؤسَّسة ميلانو–كورتينا»، إذ تُقدَّر انبعاثاتها، بحسب تقديرات عام 2024، بما يزيد قليلًا على مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون طوال دورة الحدث كاملة، وهي كمية تعادل الانبعاثات الناتجة عن نقل جميع سكان ميلانو على متن رحلة جوية ذهابًا وإيابًا بين «روما» و «نيويورك». غير أن هذه الأرقام تتعلَّق بالفعاليات فقط، ولا تشمل المشاريع الإنشائية. وفي «أولمبياد باريس 2024»، تراوحت «البصمة الإجمالية المعلنة والمُدرجة في تقارير متخصِّصة بين 1.6 و2.1 مليون طن من مكافئ ثاني أكسيد الكربون»، بينما بلغت في أولمبياد وبارالمبياد «بيونغتشانغ» الشتوية عام 2018، وفق بعض التقديرات، نحو 1.56 مليون طن.
ولا تزال بيانات أخرى مفقودة، تتعلَّق بتحديد الجهات التي تتحمل التكاليف وقيمة ما يحصل عليه المتعهِّدون من الباطن، والبالغ عددهم 516 شركة، مقابل 101 شركة فائزة بالعقود الرئيسية. ويؤكِّد التقرير أن «التدقيق في سلاسل المقاولات الفرعية أمر أساسي لضمان الشفافية، لأن المستويات الثانوية من سلاسل التوريد هي الأكثر عُرضةً للمخاطر»، سواء تلك المرتبطة بحقوق العمَّال وسلامتهم أو بمخاطر تسلُّل الجريمة المنظَّمة، على سبيل المثال.
وبينما باتت بعض البيانات متاحة، في «نتيجة مهمَّة تعكس تعاون شركة سيميكو (Simico S.p.A.) والدفع الذي وفَّرته أيضًا اللَّجنتان المشتركتان لمكافحة المافيا والأولمبياد في بلدية «ميلانو» خلال نقاشات علنية»، لا تزال المعلومات المتعلِّقة بالقيم المالية غائبةً، نظرًا لصعوبة توفيرها من قبل الشركة، وتعقيد عملية تتبُّعها من جانب شبكة «أوبن أوليمبيكس».
صعوبة جمع البيانات عن مشاريع الجهات المحلية
تساءَلت شبكة «أوبن أوليمبيكس 2026»: «هل من الضروري فعلاً أن يضطرَّ المجتمع المدني إلى خوض معركة للحصول على حقِّه في معرفة تفاصيل المشاريع المرتبطة بالألعاب وتكاليفها؟»
تعترف الحملة بأنَّها لم تتمكَّن – من دون أن يكون ذلك خطأها – من تحقيق أحد أهدافها الأساسية، وهو إنشاء منصَّة موحَّدة تحتوي على جميع البيانات الخاصَّة بالمشاريع من كل الجهات المشاركة في التنفيذ. فبينما تتوافر بيانات شركة «سيميكو»، لا توجد معلومات كافية عن مشاريع «أناس» أو التدخُّلات التي تقوم بها الجهات المحلية مثل الأقاليم والمحافظات والبلديات.
وعلى طلبات الوصول المدني المقدمة من منظَّمة «ليبيرا»، ردَّت إدارة إقليم «لومبارديا»، بينما قدمت بلدية «ميلانو» في البداية رفضًا، ثم أجلت الرد إلى موعد غير محدَّد. أمَّا الطلبات المقدَّمة في إقليمي «ترينتينو ألتو أديجي» و«فينيتو» فلا تزال من دون رد.
وتطرح شبكة «أوبن أوليمبيكس 2026» أسئلة جوهرية: «هل يجب أن يواجه المجتمع المدني جدران البيروقراطية أو تُغلَق في وجهه أبواب البيانات، كما حدث مع بلدية «ميلانو»، ليتمكَّن من ممارسة حقِّه في المعرفة؟» وتضيف: «لا يزال هناك هامش كبير من عدم اليقين»، مشيرة إلى وجود «فجوة معلوماتية لا نستطيع معالجتها كشبكة، وهي ليست نتيجة نقص في التحليل، بل بسبب غياب منصَّة موحَّدة تجمع كل المشاريع ضمن خطة الألعاب وخارجها». ويؤكِّد التقرير أن المعلومات متوفرة بتفصيل حيث تعمل «سيميكو»، بينما هي مجزَّأة أو غائبة في أماكن أخرى، وأن جميع المقترحات لتجاوز هذه الفجوة خلال العام والنصف الماضي لم تُثمر نتائج ملموسة.
ورغم ذلك، تبقى الشبكات المشاركة متفائلة: «كشبكة Open Olympics 2026، نظل على استعداد للتشاور علنيًا بشأن أي حل يُمكِّننا من ممارسة حقِّنا الكامل في المعرفة».
الثغرات السوداء: المؤسسة والمنسق الاستثنائي للبارالمبياد
تشير الشبكة إلى أن «الألعاب البارالمبية يمكن أن تكون أداة لتعزيز الشمول الاجتماعي وكسر الحواجز، لكن يجب تُذكِّر أن هذه الحواجز يجب التغلُّب عليها يوميًا».
ولا تتوافر بيانات دقيقة عن تكاليف تنظيم الألعاب التي تتحملها المؤسسة المنظمة، المصنفة بموجب مرسوم حكومي كهيئة خاصة (والموضوع سيخضع لمراجعة المحكمة الدستورية). المعروف فقط أن 43 مليون يورو تأتي من صندوق دعم ضحايا المافيا والربا والأيتام ضحايا العنف ضد النساء، كما كشف موقع «لا فِيا ليبيرا» (lavialibera).
كما لا توجد معلومات كافية عن صرف الـ328 مليون يورو المخصصة للمنسق الاستثنائي للبارالمبياد، وهو مبلغ أعلى بكثير من الـ71.5 مليون يورو المقررة للبارالمبياد. وسيبدأ احتساب الثلاثة أشهر منذ تعيين المنسِّق «جوزيبي فاسيول» في 16 ديسمبر، موعد تقديم أول تقرير لوزارة الرياضة عن عمله. ويشير التقرير إلى أن «دور المنسِّق غير واضح، سواء من حيث المسؤوليات الفعلية أو نطاق التدخُّل، ولا تتوافر معلومات كافية لممارسة حق المعرفة حول كيفية عمله وصرف الأموال».
وتلفت الشبكة إلى أن «صندوق الشمول للأشخاص ذوي الإعاقة انخفض من أكثر من 552 مليون يورو لعام 2024 إلى أقل من 232 مليون يورو سنويًا اعتبارًا من 2025، أي بانخفاض قدره 320 مليون يورو»، وهو ما تصفه بـ«سيناريو مقلق».
الحملة مستمرَّة، والتركيز على مرحلة ما بعد الألعاب وأولمبياد 2030 في فرنسا
تؤكِّد الشبكة أن عملها لم ينتهِ مع صدور هذا التقرير قبل انطلاق الألعاب، بل سيستمر «حتى اكتمال آخر مشروع وحتى الحصول على إجابات عن الأسئلة المطروحة في هذا التقرير». كما تطالب بالحصول على «بيانات دقيقة للتقرير النهائي، سواء عن الحدث ونفقاته أو عن المشاريع المرتبطة»، مشيرة إلى أن «في حال وجود عجز مالي لدى «مؤسَّسة ميلانو–كورتينا»، سيكون الدولة هي من يتحمل التكلفة».
وتسعى الشبكة أيضًا إلى تصدير نموذج المراقبة المدنية هذا إلى خارج إيطاليا، استعدادًا للألعاب الشتوية لعام 2030 في جبال الألب الفرنسية، مشدِّدةً على أن الهدف «جعل نتائج العمل المدني الإيطالي – الحصول على أول بوابة بيانات لدورة أولمبية وبارالمبية بدعم مدني – معيارًا أدنى، ونقطة انطلاق للتطوير مستقبلاً».


