الصفقة، التي تبلغ قيمتها نحو 2.2 مليار يورو، تتضمن عرض شراء عام بسعر 4.60 يورو للسهم، وتمنح JD.com شبكة توزيع هائلة تضم 48 ألف موظف، وعائدات تجاوزت 22 مليار يورو في عامي 2023/2024، وانتشارًا في 11 دولة أوروبية. في إيطاليا وحدها، التي تُعد السوق الثانية لميديا وورلد بعد ألمانيا، تضم الشبكة 144 متجرًا ويعمل بها نحو 5,000 موظف. ومن المقرر إتمام الصفقة بحلول النصف الأول من عام 2026، بعد موافقة سلطات المنافسة الأوروبية.
لكن هذه الخطوة لا تُعد اقتصادية فحسب، بل تحمل أبعادًا جيوسياسية قد تثير قلق روما وبروكسل على حد سواء.
هجوم ناعم من الشرق
تُعتبر JD.com ثالث أكبر شركة تجارة إلكترونية في الصين بعد "علي بابا" و "بيندودو"، وقد شقّت طريقها نحو أوروبا عبر عمليات توسُّع مدروسة في فرنسا وهولندا والمملكة المتحدة، باستخدام منصتها "Ochama" التي تدمج بين التسوُّق الإلكتروني والاستلام من متاجر ذكية مؤتمتة. وخلال العام 2024، درست JD.com الاستحواذ على سلسلة الإلكترونيات البريطانية "كاريز"، قبل أن تختار "سيكونومي" كصفقة أكثر استراتيجية تمنحها موطئ قدم في أسواق نصف أوروبا دفعة واحدة.
تأسست JD.com عام 1998 على يد رجل الأعمال ريتشارد ليو، وبرزت كنموذج صيني مختلف في التجارة الإلكترونية، إذ تحتفظ بسيطرة كاملة على سلسلة التوريد، من المخازن والتوصيل إلى المنصة الرقمية نفسها، ما يمنحها قدرة فائقة على إدارة البيانات وتقليل التكاليف وتسريع الخدمات.
ويمتد نفوذها الرَّقمي إلى أدوات مثل JD Pay والحوسبة السحابية والذكاء الاصطناعي، ما يُمكِّنها من جمع وتحليل بيانات المستخدمين بدقة لافتة. في الربع الأول من عام 2024 وحده، بلغ عدد المستخدمين النشطين شهريًا على تطبيق JD.com نحو 569.3 مليون شخص، مسؤولين عن %78.5 من إجمالي المعاملات عبر الأجهزة المحمولة.
التحدي أمام روما: هل تُفعّل "القوة الذهبية"؟
تثير هذه الصفقة أسئلة حساسة لدى صناع القرار في إيطاليا. فمع دخول لاعب صيني بهذا الحجم إلى أحد القطاعات الحيوية، يُنتظر من الحكومة الإيطالية برئاسة «جورجا ميلوني» أن تدرس تفعيل ما يُعرف بـ"الفيتو الذهبي" (Golden Power) – أداة قانونية تتيح للدولة التدخل لمنع أو تقييد استحواذات أجنبية في قطاعات استراتيجية، حمايةً للأمن القومي.
وفي حين لم يحدث تفعيل هذه الأداة خلال استحواذ Fnac الفرنسية على "يونيورو"، فإن دخول JD.com – باعتبارها شركة صينية لا أوروبية – يضع الحكومة أمام موقف أكثر حساسية. خاصةً في ظل التوازنات الدقيقة مع الولايات المتحدة التي تنظر بعين الريبة إلى توسع النفوذ الصيني داخل البنية التحتية الأوروبية.
ما وراء البيع والشراء: بيانات وسيطرة
لا يقتصر الأمر على تجارة الإلكترونيات. فـJD.com تمتلك شبكة لوجستية جبارة، تدمج المخازن ووسائل النقل مع خوارزميات الذكاء الاصطناعي القادرة على تتبّع وتحليل سلوك المستهلكين. ومن خلال مئات آلاف المعاملات اليومية في المتاجر الإيطالية، قد تتمكن الشركة من تكوين قواعد بيانات ضخمة عن عادات وتفضيلات ملايين المستخدمين، بما يشمل معلومات حساسة تتعلق بالاستهلاك الفردي والجماعي.
رغم تطمينات JD.com بأن Ceconomy ستحتفظ بـ"الاستقلال التشغيلي"، وأنه لن يكون هناك مساس بعقود الموظَّفين أو أنظمة تكنولوجيا المعلومات أو نقل للبيانات، إلا أن هذه الوعود تظل غير مُلزِمة قانونًا، وقابلة للتغير في أي لحظة.
إيطاليا في قلب معركة جيوسياسية أوروبية
في النهاية، لا يدور الحديث عن استثمار تجاري فحسب، بل عن اختراق جيوسياسي لمراكز التحكُّم الرَّقمية واللوجستية في القارة العجوز. وإذا ما تم تمرير هذه الصفقة من دون ضوابط، فقد تتحول إيطاليا إلى الحلقة الأضعف في السلسلة الأوروبية، مما يُعرض بنيتها التحتية التقنية والاقتصادية إلى تأثيرات عميقة من قوة أجنبية تَصعد بهدوء، ولكن بثبات.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق