يشير التقرير إلى وجود منظومة موازية من التمويل المشروط، تقوم فيها بروكسل بمكافأة المؤسَّسات الإعلامية المنسجمة مع توجُهاتها (طمس الحدود بين العمل الصحفي والاتصال المؤسَّسي)، وعَزل تلك التي تتَّخذ مواقفًا غير راضٍ عنها. ولا يتعلق الأمر بناشرين صغار يكافحون للبقاء في سوق صعبة، بل بمجموعات إعلامية كبرى تتلقَّى تمويلًا سخيًا مقابل تبنّي خطاب مؤيِّد للاتحاد الأوروبي. وكل ذلك يجري عادة من دون توضيح للقارئ حول الدور الذي يلعبه الاتحاد في إنتاج المحتوى، في ما يُشكّل—بحسب التقرير—مساسًا بثقة الجمهور ويُذكِّر بأساليب الدعاية و«التسويق الخفي»: الترويج لسياسة التماسك باعتبارها «فوائد»، إلى تمويل مبادرات «التحقُّق من الوقائع».
وكالة أنسا: الذراع الأقوى لإعلام منضبط
تُعدُّ وكالة «أنسا»، كبرى الوكالات الإخبارية في إيطاليا، الناقل الرئيسي للرواية المؤَيِّدة للاتحاد الأوروبي، لكون موادها الإخبارية تُعاد نشرها من قبل مئات وسائل الإعلام المحلية والوطنية. وبحسب البيانات الرَّسمية التي حلَّلها «فازي»، تلقت «أنسا» ما يقارب 6 ملايين يورو من المفوضية الأوروبية خلال السنوات العشر الماضية. وقد استفادت الوكالة من أكثر من 800 ألف يورو لتمويل ثلاثة مشاريع إعلامية كبرى على الأقل، بينها: Italy: Cohesion Goes Local (بقيمة 265 ألف يورو)، Time4Results (270 ألف يورو)، وThe Cohesion Policy Today and Tomorrow – Italy (270 ألف يورو).
وتموَّل هذه المشاريع في إطار برنامج «التدابير الإعلامية لسياسة التماسك الأوروبي» (IMREG)، وقد أسفرت عن إنتاج آلاف المواد المتعدِّدة الوسائط على الصعيدين الوطني والمحلِّي، أعادت نشر عدد كبير منها أكثر من 20 صحيفة محلية، بينها «غازيتا ديل سود»، «لا سيسيليا» و«لا غازيتا دِل ميزوجورنو». كما شاركت «أنسا» في مشروع FANDANGO، الذي أُنشئ «لرصد الأخبار الزائفة وتوفير معلومات أكثر كفاءة وتحقُّقًا للمواطنين الأوروبيين»، بتمويل يكاد يكون كاملًا من المفوضية الأوروبية عبر برنامج Horizon 2020، بقيمة تقارب 3 ملايين يورو.
وتتمثَّل الوظيفة، بحسب التقرير، في نقل الخطاب المؤيِّد للاتحاد الأوروبي إلى الأطراف وربط صورته بمكاسب ملموسة. أما المعضلة الأكبر، فهي أن معظم هذه المواد لا يُشار فيها صراحة إلى كونها ممولة من الاتحاد الأوروبي، ولا إلى أنَّ التوجُّهات التحريرية تندرج ضمن أهداف محدَّدة من بروكسل.
وفي القضايا ذات الحساسية الجيوسياسية — ولا سيما الصراع الروسي–الأوكراني — تساهم هذه المشاريع في خلق بيئة تُحفَّز فيها وسائل الإعلام ماليًا على ترديد المواقف الرَّسمية للاتحاد الأوروبي وحلف الناتو، ما يضيق أكثر مساحة العمل الصحفي المستقل.
يخلص التقرير إلى أنَّ الأدلة تشير إلى أن الاتحاد الأوروبي يستثمر بشكل ممنهَج في تشكيل بيئة إعلامية «صديقة» تُعزِّز شرعيته وأهدافه السياسية، بدلًا من الاكتفاء بدعم صحافة حُرَّة ومستقلَّة. ويدعو التقرير إلى فتح نقاش عام عاجل حول هذه الممارسات، وإلى إخضاع الروابط المؤسسية بين السلطة السياسية والعمل الصحفي للتدقيق — وصولًا إلى تفكيكها بالكامل.

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق